التعليم الديني, والعمل الاجتماعي الإيجابي, ومقاومة المحتل.. كلها مصطلحات' بريئة' ذهبت ضحية لمفاهيم أخري غير بريئة. مثل: الخروج علي الحاكم, وتكفير المجتمع, وفرض تفسيرات القوانين الدينية بالقوة. واحتقار العلماء, والسعي إلي تحقيق مصالح سياسية تحت ستار الدين, وقتل المدنيين بناء علي قاعدة' التمترس'. فحركة طالبان الأفغانية مثلا نشأت في أحضان المدارس الدينية البدائية في باكستان التي تكاد تشبه' الكتاتيب' في مصر قديما, وتخرج منها عشرات الآلاف من الشبان الذين درسوا علوم الشريعة في باكستان قبل أن ينطلقوا إلي أفغانستان للاستيلاء علي الحكم هناك ويفرضوا تفسيراتهم المتطرفة لأحكام الشريعة! فكانت النتيجة للأسف أن ساءت سمعة المدارس الدينية التقليدية والمؤسسات التعليمية الدينية, التي أصبحت من بين أهداف الحرب ضد الإرهاب, باعتبار أنها هي التي' تفرخ' هؤلاء' الإرهابيين' فكريا, بحيث لا ينقص خريجوها سوي التدريب علي حمل السلاح وصناعة المتفجرات لكي يحصلوا علي مسمي' إرهابيين' من الناحية الفعلية, ولكن الحقيقة أن المدارس الدينية والتعليم الديني التقليدي والمؤسسات التعليمية الدينية بريئة من ذلك تماما. وتنظيم' القاعدة' الإرهابي نشأ في رحم الجهاد الأفغاني المشروع و'البطولي' ضد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان في الثمانينيات من القرن الماضي, ومعروف الدور الذي لعبته أجهزة المخابرات الغربية وفي دول أخري في نشأة وتدعيم هذه الحركات' الجهادية' التي رفعت شعارا مشروعا في العلن هو' مقاومة المحتل', ولكن أهدافها تغيرت بعد زوال الاحتلال الشيوعي, ليتجه إلي أبعاد أخري سياسية, وليستولي عليها حفنة من المتطرفين ذوي الأغراض الدسياسية شديدة التطرف, وهم من أساءوا بطبيعة الحال إلي الجهاد ضد السوفيت, بعد أن أصبح الحديث في الدوائر السياسية دائما يدور عن أن القاعدة وغيرها من الجماعات المرتبطة بها خرجت من رحم المقاومة الأفغانية للشيوعية. وحتي المقاومة الإسلامية في منطقة شمال القوقاز الروسية التي نشأت من أجل الانفصال وتكوين جمهوريات مستقلة في الشيشان وداغستان وأنجوتشيا وغيرها, خرجت عن دائرة السعي إلي الانفصال ومقاومة القوات الروسية, لتتجه إلي دائرة ارتكاب العمليات' الإرهابية' في عمق الأراضي الروسية مثل هجوم مسرح البولشوي الشهير عام2002 والذي راح ضحيته أكثر من150 قتيلا, والتفجيرات الانتحارية الأخيرة في مترو أنفاق موسكو, ومن المفارقات أن الهجوم الأول قيل إنه من تنفيذ امرأة, بينما الهجوم الأخير في مترو الأنفاق من تنفيذ امرأة أيضا ممن يطلق عليهن في روسيا لقب' الأرامل السوداوات', وهن أرامل المقاتلين الشيشان والداغستانيين الذين لقوا مصرعهم علي أيدي القوات الروسية, ويسعين للانتقام لمقتل أزواجهن. ولكن الحقيقة أن المقاتلين الشيشان وفي منطقة القوقاز عرضوا قضيتهم بصورة أفضل وأقوي وأسمي عندما كانوا يكتفون بمقاومة القوات الروسية الغازية في أراضيهم, صحيح أن موسكو كانت تعتبر هذه القضية الانفصالية مسألة داخلية لا يحق لأي دولة أخري التدخل فيها, ولكن الحركة الانفصالية في تلك المنطقة اجتذبت كثيرا من المؤيدين والمتعاطفين, ليس في العالم العربي والإسلامي فحسب وإنما في الغرب أيضا, مما دفع موسكو إلي اتباع استراتيجيات أخري' تفاوضية' لحل المشكلات الخاصة بهذه الجمهوريات, ولكن تحول هؤلاء المقاتلين إلي ضرب المدنيين من الشيشان والروس معا بناء علي فتاوي التمترس والتكفير الخاطئة التي تجيز قتل المدنيين في وقت الحرب, في الداخل والخارج, أساء كثيرا إلي القضية الشيشانية وإلي القضية الانفصالية عموما في منطقة القوقاز, بل أصبحت روسيا ترفع شعار الحرب علي الإرهاب هي الأخري في حملاتها العسكرية لمواجهة الرغبات الانفصالية في تلك المنطقة, وأصبحت وسائل الإعلام الغربية, بل والعربية, تضع هؤلاء المقاتلين في مصاف المنظمات الإرهابية شأنهم شأن القاعدة وطالبان, بعد أن أخطأت هذه الجماعات أهدافها. أما الإرهاب في العراق, فقد بات ينسب للأسف إلي تنظيمات ذات طابع إسلامي لأنها ترفع شعارات ذات طابع ديني لها كلها يستخدم بتفسيرات شديدة الجهل لصحيح الدين, وتجعل من يرفعها غير قادر تماما علي التفريق بين مقاومة المحتل ومقاومة' الشعب' نفسه, وهي في النهاية جماعات أساءت إلي الإسلام أكبر إساءة, بعد أن قتلت من العراقيين أكثر مما قتلته من الأمريكيين أنفسهم بناء علي دعاوي التكفير والتضليل واحتقار العلماء واتهامات الخيانة والعمالة الملقاة هنا وهناك حسب الأهواء والأمزجة! والتفجيرات الإرهابية التي يشهدها العراق بين الحين والآخر أصبحت لغة الحوار اليومية السائدة بين القوي والأطياف السياسية والتنظيمات المسلحة, فهي وسيلة تهديد وضغط وإرهاب وانتقام وإثبات وجود, وأحيانا تتحول إلي وسيلة للعقاب الجماعي للمواطنين أنفسهم علي تأييدهم هذا الاتجاه أو غيره! وإذا انتقلنا إلي المحاكم الإسلامية في الصومال سنجد أن نشأتها هي الأخري ارتبطت بحالة الفراغ السياسي التي خيمت علي الصومال, ونجحت في فرض نفسها كطرف رئيسي علي الساحة السياسية الصومالية من منطلق تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وفقا لما يراه قادة هذه المحاكم بطبيعة الحال, وهم مجموعة من الشباب الذين هم امتداد طبيعي لتنظيمات الإسلام السياسي التي ظهرت في العالم العربي والإسلامي في العقود القليلة الماضية, وأطلق عليهم اسم' المحاكم' لأنهم نجحوا في تعويض الغياب القانوني لمؤسسات الدولة في فترة نشأتها, فأصبحت أحكامها المستندة إلي الشريعة هي الأساس الذي تدار به الأمور, في جنوب الصومال, ثم في الصومال ككل. [email protected]