كشفت نتائج الجولة الأولي من انتخابات الرئاسة أن خريطة القوي السياسية قد تغيرت في غير صالح جماعة الإخوان المسلمين, التي تآكل الكثير من مصداقيتها, وقوي النظام السابق, التي استردت بعضا من عافيتها. لكن تفكك صفوف وتنافس مرشحي وتفتيت أصوات القوي الديموقراطية البديلة وضعها أمام المفاضلة في انتخابات الإعادة بين خيارين, إما إعادة إنتاج النظام السابق أو إقامة دولة الفقهاء الدينية. وترجع معضلة الإفادة المرجوة في شأن الإعادة المرتقبة الي أن كلا البديلين المطروحين يبدو مرا أو سما, من منظور من يخشون الكارثة المحدقة المنذرة ببعث دولة الطغيان, الأمنية أو الدينية, ويتطلعون الي بناء دولة المواطنة الديموقراطية, التي تحترم جميع حقوق مواطنيها, السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها, دون تهميش أو تمييز. وتزداد المعضلة تعقيدا, إذا غضضنا الطرف عن هذا الهدف الإستراتيجي, الذي يستحق بحق أن نعتبره أساس الجمهورية الثانية, واقتصر نظرنا علي وعد الفريق شفيق بالاستقرار وبشري الدكتور مرسي بالنهضة. ففي ظل الرفض الواسع للمرشح' العسكري' برؤيته' الأمنية', وما ينذر به من إحياء للنظام السابق, يبدو جليا أن المصريين لن يحظوا بالاستقرار في حالة إنتخابه; وقد تنزلق مصر الي نفق عدم استقرار منذر, وفي ظل الشك العميق في المرشح' الرباني' برؤيته' الإقصائية', وما يبشر به من ولاية الفقهاء, يبدو جليا أن المصريين لن يعرفوا نهضة في حالة انتخابه; وقد تنزلق مصر الي بئر مظلم لا قرار له!! وفي مقاله المهم' المرشح الرباني', كتب الأستاذ فهمي هويدي رافضا تصديق أن ثمة مرشحا ربانيا لرئاسة الجمهورية, وأن ثمة تكليفا شرعيا بالتصويت لمرشح لمجرد أنه ينتمي لفصيل' مرجعيته إسلامية'. ومستنكرا فتاوي المتاجرة بالآخرة لتحقيق مكاسب في الدنيا, يشير الي فتوي الحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس الديني الإسرائيلي: إن تصويتك للحزب سيجعل لك مكانة مرموقة في الجنة, وفتوي آخر بأن الذين يصوتون لغير حزب شاس سيدخلون جهنم!! لكن المصريين, الذين انخفضت نسبة تصويتهم للإخوان في انتخابات الرئيس الي نصف ما كانت عليه في انتخابات البرلمان, قد برهنوا بجلاء علي أنهم لم يصوتوا لمرشحي البرلمان' الإسلاميين' من أجل دخول الجنة!! وقد تراجع تصويتهم لمرشحي الرئاسة الإسلاميين' دون خشية من دخول جهنم!! ولا جدال أن الإخوان المسلمين يسعون للاستيلاء علي جميع السلطات, سلطة بعد سلطة, وقد توهموا أنهم قد تمكنوا علي أرض مصر الطيبة; فاستكبروا علي الأمة وغدروا بشباب الثورة وأقصوا القوي المدنية, ثم هتفوا بسقوط حكم العسكر بعد طول نفاق!! ولمن ينفي سعي الإخوان الي إقامة دولتهم الدينية أو يوهم نفسه بعكس هذا, أتساءل: ماذا تكون الدولة الدينية إن لم تكن دعوة الإخوان وحلفائهم الي جماعة' أهل الحل والعقد' لتكون مرجعية فوق الدستور والمؤسسات الدستورية والمنتخبة؟؟ وماذا تكون إن لم تكن دعوة تطبيق' أحكام الشريعة التفصيلية', وهي المتغيرة حسب الزمان والمكان, بدلا من إعلاء مقاصد ومباديء الشريعة؟؟ وماذا تكون ما لم تكن التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو المذهب أو العقيدة أو الرأي؟؟ وماذا تكون إن لم تكن نشر الالتباس بين الولاء للدين والولاء للوطن؟؟ وماذا تكون ما لم تكن رفض أن تكون الدولة علي مسافة واحدة من جميع مواطنيها؟؟ وماذا تكون إن لم تكن رفع سلاح مخالفة شرع الله بوجه المعارضين والمخالفين لرؤي جماعة من المسلمين!! وقد قدم الإخوان المسلمون الدليل تلو الدليل علي أنهم لن يتخلوا عن انتهاز فرصة يتصورونها بادية لاختطاف ولاية مصر. وفي هذا السبيل لن يصدقوا وعودهم وعهودهم, التي يعلنونها كي ينالوا دعم القوي المدنية والثورية تعزيزا للشرعية السياسية لمرشحهم الرئاسي. ولا أبرر استنتاجي بالنوايا وإنما بالمواقف الفعلية, لأنهم أخلفوا وعودهم ونقضوا عهودهم في مغالبة البرلمان وترشيح الرئيس, ولا يزالون يتهربون من استحقاق الجمعية التأسيسية سعيا لتفصيل الدستور وفق نتائج انتخابات الرئاسة. وعلي من لا يزال يراهن علي صدق وعدهم وعهدهم تذكر تصريح كبيرهم الشاطر بأن: تغيير قرار الجماعة كان بسبب تغير الظروف والمستجدات!! وإعلان ياسر برهامي, حلفيهم السلفي: أن تغير موقف الإخوان من ترشيح أحد أعضائهم لمنصب الرئاسة لا يعد مخالفة للوعود, لأن المواقف السياسية تتغير بتغير الظروف والأحوال وموازنات القوي!! وقد كان نهج جماعة الإخوان المسلمين منذ ثورة25 يناير هو الغاية تبرر الوسيلة, فقد ترددوا قبل نزول الميدان, ثم انسحبوا. وحين رجعوا هاتفين لشرعية الميدان لم يفعلوا انتصارا للثورة, ولكن حين بدا أن مكسبهم البرلماني مهدد وأن تشكيلهم للحكومة مستحيل!! فلم يحظوا بثقة شباب الثورة. وقد كان حريا بالإخوان المسلمين- بدلا من الفرحة بالنصر والشماتة في شباب الثورة, الذين بدوا مهزومين, وخاصة بعد فشل الدعوة الخائبة للإضراب العام والعصيان المدني- أن يتذكروا ما كتبه شيخهم سيد قطب في مؤلفه المبدع والمبكر' كتب وأحاديث'; يقول: إن معاوية وزميله عمرا (ابن العاص) لم يغلبا عليا لأنهما أخبر منه بالتصرف النافع في الظرف المناسب. ولكن لأنهما طليقان في استخدام كل سلاح, وهو (علي) مقيد بأخلاقه في اختيار وسائل الصراع. فلا عجب ينجحان ويفشل, وإنه لفشل أشرف من كل نجاح.. قد تكون رقعة الاسلام قد امتدت علي يدي معاوية ومن جاء بعده, ولكن روح الاسلام قد تقلصت, وهزمت, بل انطفأت.. فروح ميكيافيللي التي سيطرت علي معاوية, قبل ميكيافيللي بقرون, هي التي تسيطر علي أهل هذا الجيل, وهم أخبر بها من أن يدعوهم أحد اليها! لأنها روح النفعية!! وفي مواجهة انتقاد اخلاف الجماعة لوعودها ونقضها لعهودها, نشر موقع إخوان أون لاين دراسة تحت عنوان: تبرئة الإخوان المسلمين من تهمة التراجع في القول وإخلاف الوعد- رؤية شرعية, تتهم نقاد الجماعة بأنهم من' العلمانيين والليبراليين الكارهين للإسلام ومبادئه'!! وتستنكر من ينكرون علي الإخوان عدم التمسك بإعلان تطوعي من جانب واحد, لم يلتزموا به أمام أي طرف أو هيئة أو كتلة أو ائتلاف سياسي; كعهد أو اتفاق أو وثيقة مكتوبة وموقعة؟! وتعلن أنه إن بدا عارض أو مانع أو عذر أو رأي منعه من الوفاء بوعده, فلا يعد هذا إخلافا للوعد, الذي هو من صفات المنافقين!! بيد أنه لم يكن بمقدور الجماعة وليس بمقدورها إثبات أن دفعها بمرشح رئاسي كان خيرا للثورة التي ركبوا موجتها وغالبوا للاستئثار بغنمها وتركوا شباب الثورة ينفرد بغرمها!! وأخيرا, فان ما يعرضه الإخوان المسلمون من مناصب- تحت رئاستهم- ما أسهل تغييرها بعد الانتخاب. ولذلك إذا أرادوا استرداد مصداقيتهم, التي تداعت بأفعالهم, وأن يكون شعارهم' قوتنا في وحدتنا' فعلا لا لغوا, فان عليهم- قبل انتخابات الإعادة- إعلان تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور بالتوافق مع من رفضوا المحاولة الآثمة الفاشلة لاختطافها, وإعلان إلتزامهم بوثيقة' العهد' المطروحة من القوي السياسية المدنية. لكنهم مازالوا يسوفون أمر إعلان تشكيل الجمعية التأسيسية قبل انتخابات الإعادة, وووصف نائب رئيس حزب الحرية والعدالة المطالبة بالتوقيع علي وثائق محددة بأنه' أمر غير لائق'!! وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم