أتذكر تلك السنوات وأنا صغير ونحن نصوم شهر رمضان فى صعيد مصر .. ذكريات روحانية باقية فى النفس والوجدان تشكلت معها حب الصوم وانتظار شهر رمضان كل عام بشوق ولهفة وإقبال. فى صحن المسجد نجلس من بعد صلاة العصر وحتى أذان المغرب، نقرأ فى كتاب الله نستمع إلى فضائل الشهر الكريم وإلى عظة الصوم ومآثر رمضان. نتحمل بحب حرارة الجو المرتفعة والتى كانت مرتفعة جدا ونحن نراقب عقارب الساعة فى انتظار آن يصعد المؤذن. ولم تكن فى ذلك الوقت قد انتشرت مكبرات الصوت، كان المؤذن يصعد السلم حتى يقف على أعلى نقطة فى واجهة المسجد ويؤذن والصغار ينطلقون جريا إلى المنازل لإبلاغ الأمهات بالأذان. كانت حرارة الجو شديدة لم تكن قد دخلت بعد المكيفات أو حتى المراوح الهوائية ولكن كان صحن المسجد رطبا محببا للنفس والعقل. الارتباط بالمسجد منذ الطفولة ظاهرة طبيعية فى الصعيد .. الجميع يتردد عليه طوال العام لكن فى شهر رمضان يصبح المسجد هو الغاية والوسيلة. كانت الدعوة وسطية والسماحة فى الوجوه بادية والطاعة لرب العباد هى المبتغى. شيخ المسجد الضرير رجل له مهابة واحترام فهو لا يبالغ فى زمن الخطابة ولا يبتعد عن المعنى المقصود. كنا قبل لحظات قليلة من أذان المغرب نسرع الخطى صوب بئر عبد الوهاب نملأ الوعاء منها حتى نحصل على ماء بارد فى زمن لم تكن الثلاجات قد وصلت بعد. كانت من أعذب المياه التى ننتظرها على مائدة الإفطار، كل شىء فى هذه الأيام كان طبيعيا صادقا فطريا . ذكريات الصوم التى لا تزال باقية ممتعة نلهو أمام المسجد من بعد صلاة العصر وحتى أذان المغرب وعندما نستمع إلى صوت المؤذن نهرول مسرعين إلى البيت ونصيح بأعلى صوت المغرب الآن المغرب الآن . ثم نتناول الإفطار ونذهب إلى المسجد لصلاة التراويح وبعدها يمتد السهر حتى صلاة الفجر، وبعد الصلاة ينتشر المزارعون فى مناكب الأرض سعيا إلى الرزق الحلال والعمل بجد كما لو كان النهار عاديا ولا حديث عن المشقة وقت الصوم. طاقة وقدرة يمنحها الله عز وجل إلى هؤلاء المخلصين للعمل الطامعين فى إرضاء الخالق عز وجل ففى الحقول تنمو النباتات وفى المساجد تنمو الطاعات والرابط بينهما السعى فى العبادة والسعى فى الرزق والعمل . لمزيد من مقالات ماهر مقلد