طرابلس فى القرن الماضى نرى فيها صورة رمضانية خاصة، تتواءم مع بيئتها، وميس توللى قرينة قنصل بريطانيا فى طرابلس سجلت فى مذكراتها مشاهد رمضانية عديدة، تلك المذكرات التى رصدت أهم حوادث طرابلس السياسية والاجتماعية فى عام 1783م، تذكر فى هذا العام أن: أشرف صوم شهر رمضان العظيم على النهاية، فقد كان مخيفا ومرعبا بحرارته القاسية الشديدة (كان رمضان فى هذا العام فى شهر يوليو) فى مثل هذا الفصل. أطلقت مدفعية القلعة النار إعلانا بانتهاء الصوم ورفعت الأعلام على كل المساجد والحصون. وكانت إشارة بدء الإفطار إطلاقة من مدفع كبير فى قلعة الباشا. ولا يتجاوز الصوم ثلاثين يوما إذا لم تتم رؤية الهلال. ويحرم المسلمون الأكل والشرب طوال شهر رمضان من شروق الشمس حتى غروبها. وقبيل آذان الفجر يتجول حرس خاص فى كل أنحاء المدينة يوقظ النيام لإعداد السحور قبل طلوع الفجر. يحدث ذلك الحرس ضجيجا قويا عاليا إذ يحمل الصحون والعلب المصنوعة من التنك وفى داخلها قطع من الحديد المتحركة. تحل هذه الضوضاء الصاخبة محل دقات الأجراس، غير المعروفة هنا، التى لا يسمح بها الدين الإسلامى. يعلن آذان الفجر موعد الصلاة الأولى من الصلوات الخمس، فيؤذن المؤذن خمس مرات فى غضون أربع وعشرين ساعة، من على منائر المساجد، يدور حول المنارة وبيده راية مكة. ويحافظ المسلمون الأتقياء الورعون محافظة دقيقة على صوم شهر رمضان.وتدلل على ذلك، بأنه قد هبت قبل ثلاثة أيام مضت عاصفة رملية جعلت الجو حارا ملتهبا، يهدد بالاختناق، والرياح فيها شديدة الحرارة كاللهبان المندلعة من فوهة فرن، ومع أن البعض من الناس كان يرش الماء على الوجوه، ولم يحاول شخص واحد أن يبلل شفتيه بقطرة واحدة من الماء. هذه هى كل المرطبات التى يحصلون عليها فى أشد الحرارة قساوة وعنفا، إلا أنهم يقصدون المدينة عن العزوب، وتفتح الأبواب الخارجية للقنصليات فى ساعة الإفطار، فيسير كل خمسة أشخاص أو ستة معا ليشربوا جرعة من الماء فى أول لحظة يستطيعون الحصول عليه. ويستعد الخدم من البربر، يدفعهم شعورهم الدينى والاجتماعى، منتظرين لقاءهم فى منتصف الطريق بأوعية مملوءة بالماء العذب البارد، حتى إن عددا كبيرا منهم قد أعياه التعب وأضناه العطش والجوع، بحيث لا تسمع أصواتهم عندما يطلبون جرعة من الماء، وليسوا قادرين على الوقوف وشرب الماء، بل إن البعض منهم قد وقع على الأرض مغمى عليه فى المدخل (نقصد مدخل القنصلية) قبل أن يناوله الخادم جرعة ماء ليبل بها ريقه. وعن مظاهر العيد فى طرابلس تذكر أن أهلها يترقبون بلهفة وشوق شهر شوال بعد صوم ثلاثين يوما، وخاصة فى هذا الحر القاسى جدا، حتى أصبح مثلا فى لغتهم، عندما يرغبون بشىء بكل حرارة وشوق أن يقولوا مثلما يتمنى الصائم هلال شهر شوال. فى صباح اليوم الأول من شهر شوال تطلق مدافع القلعة وكل المدفعية المحيطة بالمدينة معلنة بداية عيد الفطر المبارك الذى يستمر ثلاثة أيام فى المدينة وسبعة أيام فى الريف. يقدم الناس فى العيد على كل أنواع الضوضاء والهياج الذى وكأنه يعوض ما قاسوه طوال شهر الصيام. يرتدى الناس ملابس من مختلف الأشكال والألوان، ومن كل الأنواع الغريبة العجيبة، ويخرجون للرقص واللعب، وتربط الأراجيح بين عجلتين عاليتين فى الشوارع، حيث يتأرجح الناس بعد دفع مقدار من المال. يتوقف الصيادون عن صيد السمك خلال أيام هذا العيد ولا يمكن الحصول عليه لأن قوارب الصيد تحمل الناس للنزهة حول الميناء. وفى كل ليلة من أيام العيد، تضاء المساجد بالأنوار، فلم تكن المدينة منورة، بل بالعكس كانت مظلمة كليا، يبدو المنظر البهيج، ويتلألأ النور الساطع من المصابيح حول منارة عالية فى كل مسجد. وتنزهنا فى أمسية من أماسى عيد رمضان حتى الساعة الثانية عشرة فكانت كل جهات السوق مكتظة بالناس الذين يلبسون الملابس الجيدة. وكانت روائح العطور من العنبر وأزهار البرتقال والياسمين تنبعث بقوة غير مقبولة. وكان الشوق مضاء بالمصابيح الكثيرة التى أحاطت ظلمته نهارا. تلك كانت مشاهدات ميس توللى فى رمضان بطرابلس وهى مشاهدات تغيرت كثيرا اليوم بفعل التطور الحضارى الذى شهدته المدينة خلال السنوات الماضية، وهو تطور يقضى على العادات والتقاليد الرمضانية الراسخة فى المدينة طوال سنوات طويلة.