اختزل بعض الكتاب مرحلة الإعادة لانتخاب الرئيس في الصراع بين العمامة والكاب أو بين ما يسمي الدولة الدينية والدولة العسكرية! هذا الاختزال تبسيط للمسألة, فضلا عن سوء استخدام للمصطلح بمعناه العلمي الدقيق, وقضية المصطلح بصفة عامة تحتاج إلي صفحات طوال تكشف مدي الخسارة التي جرها استخدامه السيئ علي مصر طوال ستين عاما من البؤس والقهر والهزائم والتراجع الحضاري! العمامة ترمز إلي الإسلام, والكاب يرمز إلي الجيش وربما الشرطة, ولا أظن أن الوضع الطبيعي للعمامة والكاب أن يكونا طرفي صراع, الوضع الصواب تكامل وتعاون, فالعمامة علم وقيادة, والكاب تضحية وبسالة, كل منهما يعمل لرقي الوطن وحمايته, ورفعة شأنه وإعزازه.. ولكن بعض القوي اليسارية والعلمانية تأبي إلا أن تشهر بالإسلام في انتخابات الرئاسة, وفي مناسبات أخري فتلح علي ما يسمي الدولة الدينية التي يريد الإسلاميون إقامتها, بينما الإسلام هو الذي أنقذ أوروبا من الدولة الدينية التي كانت تحتكر ملكوت السماء, وتهيمن علي ملك الأرض, وكانت منارة الإسلام في الأندلس وجنوب أوروبا ترسل أشعتها لتمهد للثورات الأوربية التي حررت الغرب من تسلط الكهنوت علي حياة البشر. الإسلام لا يعرف الدولة الدينية, لأنه أول من أقام الدولة المدنية ضد العسكرية التي لا قداسة فيها لأحد غير الله, ولا عصمة لمخلوق غير النبي صلي الله عليه وسلم. لقد عاني المصريون بسبب رفض الحكام الطغاة ومعظمهم من العسكر إقامة الدولة المدنية الإسلامية, التي تهتدي بالقرآن الكريم, وخاصة قوله تعالي: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي, وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلم تذكرون( النحل:90), لقد افتقد المصريون طوال قرنين من الزمان هذه المبادئ الإسلامية الرائعة, فلم يجدوا العدل ولا الإحسان ولا العطاء, بل وجدوا الانحطاط والفساد والظلم العظيم, وهو ما أدي إلي الرفض والغضب والتمرد والثورات, إن الدولة المدنية الإسلامية هي التي جعلت في صلب العبادة الإسلامية قوله تعالي: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه..( المائدة:47) وأكدت علي التباين الاعتقادي بين البشر:.. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا..( المائدة:48), وتعجب أن يأتي بعدئذ من يحيل الإسلام إلي الدولة الكهنوتية في العصور الوسطي المظلمة في أوروبا! كان الكاب رمز الدولة العسكرية الفاشية التي حكمت معظم بلاد المسلمين في العصر الحديث, فأكثرت فيها الفساد, وعرضتها لهزائم غير مسبوقة في التاريخ, ووالت أعداء الله والأوطان والإنسان, وكان أكبر عار يلحق بمصر الإسلامية في العصر الحديث أن يقال إن رئيسها كنز استراتيجي لأعدي أعدائها! الإسلاميون في مصر بفصائلهم المختلفة لا يعرفون شيئا اسمه الدولة الدينية, ولكنهم يعرفون الدولة المدنية التي يحرم فيها الإسلام الظلم تحريما قاطعا, ويمنع الخوف والرعب وزوار الفجر, ويجعل ابن الفقراء يقتص من ابن الأكرمين, ويقف فيها الخليفة أو الحاكم مع خصمه أمام القاضي في مستوي واحد! ليس مقبولا التشهير بالإسلام من أجل الانتخابات, والترويج لأنصار النظام البائد ومحاولة إعادة إنتاجه تحت دعوي محاربة الدولة الدينية والفاشية الدينية التي ستقوم بتصفية الصحفيين وتسريح الفنانين وتشميع الأوبرا وإغلاق المقاهي وفرض الحجاب وحرمان المرأة من العمل والتعليم وإعادتها إلي البيت, وإقامة الخلافة العثمانية, والتشريع لمضاجعة الوداع وقطع الآذان وإرضاع الكبيروتحريم ميكي ماوس, وإفساد أكل الدود للصيام, والتبرك والتداوي ببول النبي عليه الصلاة والسلام, والمتاجرة بالدين من أجل السلطة والحكم, وتحويل مصر إلي قاعدة للإرهاب ألعن من أفغانستان مما يهدد بتدخل العالم للقضاء عليها, والتلويح بانقلاب عسكري يمكن أن تشهده مصر لحمايتها من المصير الكارثي(؟!) بسبب المشروع الإسلامي الذي سينتج عنه كما يزعمون صراع مجتمعي يزيد عزلة مصر, وقد يدفع إلي حرب مع العدو من دون تخطيط. هذا التشهير الذي لا يقوم علي أدلة وبراهين لا يعني أن يصدقه الناس بالضرورة, لأن الثورة كانت تحريرا للشعب وإرادته, واستعادة لهويته وكرامته, وبعثا لعبقريته وقوته.. ولا أظن عاقلا في مصر يمكن أن يسمح بدفن مصر مرة أخري تحت ركام الطغيان العسكري أو البوليسي, بعد الثورة الفريدة التي قام بها الشعب في يناير تتويجا لتضحيات ومعاناة علي مدي ستين عاما قاسية. لا يعقل اليوم أن نعود القهقري ليحكمنا نظام بوليسي فاشي لا يعرف الرحمة, أو حكم ينبطح أمام الغزاة, ويفرط في المتاح له من الوسائل السياسية والدبلوماسية لدرجة إنكاره تسمية الغزاة القتلة بالأعداء. ثم إن الناس لن تتقبل حاكما يسخر من عقيدتهم وشريعتهم ويقول لهم إنه لن يطبقها اليوم أو غدا, مع أنه يعلم جيدا أنها قائمة وموجودة بدرجة كبيرة في حياتهم, ولا أظنهم يقبلون بتهديده ووعيده كما أعلن في إحدي القنوات الخاصة مساء2012/5/26 بأنه لا رحمة ولا تهاون مع من نزل إلي ميدان التحرير علي مدي عام ونصف العام, وأنه لا مجال للمعارضة في المرحلة المقبلة, ولا تهاون مع من يتظاهر أو يكدر الأمن, ولا تصالح ولا تسامح مع من عارضه أو خالفه أو رفع صوته ضده, وأنه سيدعم رجال الأعمال الشرفاء يقصد من دعموه بالمال والأصوات ثم يعلن بالفم الملآن أن رئيسه المخلوع الذي كان كنزا استراتيجيا للعدو رجل وطني يجب أن يرد اعتباره ويلقي نهاية كريمة تليق بتاريخه المشرف( ؟!). إن العمامة ترفض لغة الجلادين, لأن الأمن يصنعه العدل والحرية والكرامة, وكم من طاغية تصدت له العمامة قديما وحديثا بدءا من سعيد بن جبير في مواجهة الحجاج, مرورا بالعز بن عبد السلام وابن تيمية في مواجهة المماليك والتتار; حتي سيد قطب والشيخ كشك في مواجهة العسكر المهزومين, كما ترفض التحالف مع من نهبوا وسرقوا وأفسدوا, ثم إنها تعلم أن المخلوع طغي وبغي وأفسد وجعل مصر معرة الأمم, ولا بد أن يخضع للقانون! الكاب مكانه الوحيد حدود البلاد يحميها من الغزاة والطامعين, ولا يسمح لهم باحتلال الأرض أو إهانة العرض, لأن مصر كبيرة بالحرية والكرامة والشرف, وليس بإذلال أبنائها, وتوعدهم بمصير العباسية الدامي! المزيد من مقالات د.حلمى محمد القاعود