سوف تظل الانتخابات الرئاسية الأخيرة ولفترة طويلة قادمة تثير من التساؤلات أكثر مما تقدم من إجابات, لكن علاقة الإستفهام الكبري هي: كيف أعادتنا هذه الأنتخابات بعد عام ونصف علي قيام الثورة إلي المربع رقم واحد الذي كنا فيه طوال ال30 عاما الماضية والقائل بأن الخيار بين نظام مبارك والدولة الدينية لا ثالث لهما. لقد كنا طوال العقود الثلاثة الأخيرة نرزح تحت الأعتقاد الذي سوقه نظام مبارك في الداخل والخارج بأن البديل الوحيد لنظامه هو الأخوان المسلمين وما يطرحونه من برنامج يحول مصر إلي دولة دينية ضمن مشروع أكبر يحيي الخلافة الإسلامية التي تسمح بأن يحكم البلاد شخص من أوزبكستان أو أفغانستان طالما أنه مسلم ولا تقبل بحاكم قبطي من أبناء مصر. لكن فجأة إنهار هذا النسق الفكري الذي نجح نظام مبارك في إقناع العالم به حين إندلعت ثورة 25 يناير 2011 التي أثبتت أن هناك قوة أخري لم يعمل أحد حسابها هي التي أطلقت الثورة ونجحت في 18 يوما فقط في إسقاط رأس النظام, تلك القوة التي جاءت من خارج الصندوق كانت تمثل جيلا جديدا يؤمن بالدولة المدنية القائمة علي الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية والكرامة الإنسانية, وقد رفعت شعاراتها في ميدان التحرير. ولقد أكد فاعلية هذه القوة الجديدة أنها وحدها التي أطلقت الثورة, فلم تكن معها القوة الدينية التي قيل أنها القوة الوحيدة الفاعلة في المجتمع, ثم حدث بعد ذلك أن انضمت تلك القوي الدينية بمختلف أطيافها إلي الثورة كما إنضمت كل فئات الشعب, بعد أن صدرت في الأيام الأولي تعليمات مكتب الإرشاد لأعضاء جماعة الأخوان المسلمين بعدم النزول الي الشارع يوم 25 يناير, كما أن السلفيين أصدروا في نفس الوقت فتواهم الشهيرة بأن الخروج علي الحاكم حرام شرعا. وبنزول القوي الإسلامية إلي الشارع إندمجت جميع فصائل الثورة في جسد واحد إستطاع في النهاية أن يسقط رأس النظام, ولقد قيل مرارا أن القوات المسلحة الرافضة لمشروع التوريث هي التي أرغمت رأس النظام علي الرحيل, وحتي إن صح ذلك فأن العنصر الفاعل في المشهد كان الضغط الشعبي الذي ولدته الثورة والذي لم يكن من الممكن تجاهله, وإلا فلماذا لم يقم الجيش بالتدخل قبل الثورة وإبطال مشروع التوريث؟ لكن سرعان وما وجدنا القوي الدينية التي تصورنا أنها تماهت مع بقية قوي الثورة تعمل علي اختطاف الثورة لحسابها وحدها, وقد كانت المحاولة الأولي هي ما سمي بمليونية قندهار التي إستعرضت فيها القوة الدينية عضلاتها فكان ذلك هو المؤشر الأول علي مخطط الإختطاف الذي تحقق بعد ذلك حين تمكنوا من السيطرة علي مجلسي الشعب والشوري فرأينا برلمان الثورة لا يعبر عن الثورة وإنما عن أكثر القوي اليمينية رجعية وتخلفا علي الساحة السياسية, ثم تبعت ذلك معركة لجان المجلس التي استغل فيها التيار الديني أغلبيته البرلمانية ليستحوذ علي كل اللجان تقريبا مقصيا بذلك بقية القوي السياسية الممثلة داخل البرلمان, وتكرر نفس مخطط الأستحواذ الذي ذكرنا بممارسات الحزب الوطني المنحل حين جاء موعد تشكيل اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور والتي عمد فيها تيار الأغلبية الي أقصاء كافة القوي الأخري وهو ما تسبب في صدور حكم قضائي بعدم شرعية ذلك التشكيل. وكانت الخطوة الأخيرة هي الإستحواذ علي رئاسة الجمهورية التي طالما أعلن الأخوان أنهم لن يترشحوا لها, مما أوصلنا الآن إلي ذلك الخيار غير المقبول الذي أفرزته إنتخابات الرئاسة حيث إنحصر إختيار الشعب المصري مرة أخري ما بين الدولة الدينية أو العودة إلي نظام مبارك. وهكذا اكتملت سرقة الثورة بواسطة التيار الديني وتم إلغاء كل ما جري في مصر خلال السنة والنصف الماضية التي شهدت سقوط الضحايا من قتلي وجرحي في سبيل تحقيق آمال الثورة, وهو ما يجعل العودة الي الخيار الأول بمثابة إهانة للثورة ولأرواح شهدائها ولمصر ذاتها التي ظهرت أمام العالم كقوة متقدمة يمثل شبابها جيلا جديدا أكثر تفتحا وأكثر مواكبة لمعطيات العصر, وقدمت مصر بذلك نموذجا جديدا وفريدا للثورة السلمية المطالبة بالدولة المدنية والقادرة دون إراقة الدماء علي تحقيق مطالبها والتي بدأت بإسقاط رأس النظام, فكيف بعد ذلك كله نعود الي ما قبل الثورة وكأن يوم25 يناير لم تقم له قائمة ولا أشرقت له شمس؟ كيف عدنا مرة أخري إلي المربع رقم واحد وكأن الثورة كانت جملة إعتراضية بين جملتين مفيدتين الأولي تقول بنظام مبارك القديم أو المعدل والثانية تنادي بالدولة الدينية؟ وكيف نقوم بمحاكمة مبارك ورجاله ونحن نعود مرة أخري إلي نظامه باعتباره يمثل الأنقاذ الوحيد من النفق المظلم للدولة الدينية؟ إن القوي الوطنية مطالبة الآن ليس فقط بإعلان رفضها القاطع لهذا الوضع الذي يتجاهل قيام الثورة, وإنما هي مطالبة بالعمل علي إسقاطه وذلك بتوحيدها وهو ما عجزت عن تحقيقه في الأنتخابات وأنشاء جبهة واحدة تكون هي القوة المعبرة عن الثورة ليس من خلال عملية انتخابية انتهكت شرعيتها بزجاجات الزيت وأكياس الدقيق والسكر وبكروت شحن خطوط المحمول بل وبالمال أيضا الذي وصل إلي مليارات لا يعرف أحد من أين جاءت ولا كيف. هذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه الحركة الوطنية الآن وهو يتخطي الحيرة بين إنتخاب مرشح دولة مبارك ومرشح الدولة الدينية, إنه التحدي الذي إن لم تستطع مواجهته والتصدي له وتغييره فعليها أن تصمت وتقبل بالعودة للمربع رقم واحد القائل بأن الخيار بين دولة مبارك والدولة الدينية لا ثالث لهما. المزيد من مقالات محمد سلماوي