لا أظن أننا في حاجة لذكاء خارق أو شواهد إضافية لنفهم من النتيجة التي انتهت إليها انتخابات الرئاسة في دورتها الأولي أن مصر عادت إلي ما كانت عليه قبل الخامس والعشرين من يناير الأسبق. فالقوتان اللتان بقيتا في السباق تتنافسان في اختطاف المنصب بعد عام ونصف عام علي قيام الثورة المجيدة, هما هما القوتان اللتان كانتا تتصارعان وتتقاسمان السلطة قبل قيام الثورة: نظام يوليو في آخر مراحله وأسوأها, وجماعة الإخوان المسلمين. لقد ظلت هذه الجماعة طوال الأعوام الستين الماضية تلعب دور الشريك مع ضباط الانقلاب, الشريك المحالف أحيانا, والمخالف أحيانا أخري, التحالف لأن حكم العسكر هو هو حكم الأحزاب والجماعات الدينية, انفراد بالسلطة, وهيمنة مطلقة علي كل مؤسسات الدولة, واستخدام منظم للعنف, واعتماد دائم علي أجهزة القمع والتجسس, وعدوان دائم علي الحريات وترويع للمخالفين والمعارضين آناء الليل وأطراف النهار. لكن هذين الشريكين المتشابهين اللذين يتحالفان في مواجهة القوي الديمقراطية كما فعلا في العامين التاليين لانقلاب يوليو المشئوم يتصارعان حين يخلو الجو لهما وتستبد بكل منهما طبيعتهما المشتركة, فيسعي للاستئثار بكل شيء, بل إن هذه الطبيعة تفعل فعلها داخل كل فريق علي حدة, إذ تظهر فيه أجنحة متصارعة يسعي كل منها للانفراد والتخلص من المشاركين الآخرين, وهكذا انقلب عبد الناصر علي محمد نجيب وانقلب الباقوري والغزالي علي الهضيبي وعلي جماعته التي نكل بها عبد الناصر, حتي جاء السادات فتحالف معها, ثم تلاه مبارك الذي استطاع الإخوان في الأعوام الثلاثين التي قضاها في السلطة أن يصبحوا دولة داخل الدولة, فلهم شركاتهم وبنوكهم ومتاجرهم, ومدارسهم, ومستشفياتهم وتنظيماتهم المحلية والدولية التي كانت السلطة تسميها محظورة من باب الفكاهة, وتسمح لها مع ذلك بممارسة نشاطها في العلن, وتفاوضها في عدد المقاعد التي تسمح لها بالحصول عليها في مجلس الشعب! أليس هذا هو ما رأيناه في عهد الرئيس المخلوع؟ أليس هذا هو مانراه الآن من جديد في انتخابات الرئيس التي لاتخيرنا بين أكثر من مرشح للثورة وآخر للنظام القديم الذي لم يسقط بعد بل تخيرنا بين مرشحين اثنين ينتميان معا للنظام القديم, ولايفترقان إلا في الصورة وفي بعض الشعارات التي تحل فيها كلمات محل كلمات, لكنها تعني في النهاية شيئا واحدا هو الطغيان, ويكفي أن نمتحن مرشح الإخوان في كلمة النهضة التي جعلها شعارا لحملته. ما الذي تعنيه هذه الكلمة بالنسبة له ولجماعته؟ هل يتحدث عن النهضة كما عرفها العالم في العصر الذي سمي عصر النهضة؟ احياء التراث اليوناني, واحترام العقل, وتجديد الفكر الديني, وظهور الدولة الوطنية, وانهيار الامبراطوريات المقدسة؟ هل يتحدث الإخوان عن النهضة بهذا المعني, أم يتحدثون عن النهضة كما عرفناها نحن في مصر خلال القرنين الماضيين حين أخذنا نكتشف أوروبا, ونقتبس من علومها وفنونها ونظمها الحديثة, فننشئ البرلمان, ونضع الدستور, ونتحرر من تبعيتنا للعثمانيين, ونثور ضد الاحتلال البريطاني, ونوحد بين الهلال والصليب, وننشئ الجامعة, ونحرر المرأة؟ هل يتحدث الإخوان عن هذه النهضة, وكيف وهم ينادون باحياء الخلافة وتطبيق الشريعة وتحويل الدولة الوطنية الحديثة إلي دولة دينية؟. إنهم إذن يتناقضون, أو يخفون مايريدون, ويقولون مالا يقصدون, ويثبتون بما يفعلون أنهم ليسوا طلاب نهضة, بل هم أعداؤها الألداء, وأن مشروعهم يتلخص في هدم كل مابنيناه في تاريخنا الحديث والعودة بنا إلي عصور الظلام والطغيان. والذي نقوله عن المرشح الإخواني نقوله عن المرشح العسكري, انه يفخر بانتمائه للرئيس المخلوع, لكنه يعدنا مع ذلك بالاخلاص للثورة فإذا كان المتحدث أبله فليكن المستمع عاقلا ليدرك أن وعود هؤلاء وهؤلاء ليست إلا كلمات لاتعني كما قلت إلا شيئا واحدا هو الطغيان, الطغيان المستند للقوة, أو الطغيان المستند للدين, فأيهما نختار؟ هذا هو الموقف العبثي الذي نقفه الآن أمام النتيجة التي أسفرت عنها انتخابات الرئاسة في دورتها الأولي.. والسؤآل الذي يفرض نفسه علينا في هذا الموقف هو: كيف وصلنا إلي هذه النتيجة؟ وهل جاءت قضاء وقدرا. أم أنها خطة مدبرة؟ لانستطيع الإجابة علي هذا السؤال إلا إذا استعرضنا ما كان يجب أن يحدث لتتغير شروط العمل السياسي, وينفسح المجال أمام القوي الثورية والديمقراطية لتنظم نفسها وتمارس نشاطها علي النحو الذي يمكن للدولة المدنية الحديثة, وللنظام الديمقراطي الصحيح, ويدفع للساحة بقيادات جديدة تخوض الانتخابات باسم الثورة وتبعد هذه القوي المناوئة التي اختطفت الثورة وأعادت انتاج الماضي بحذافيره مدعية أن هذا هو قرار الشعب الذي صوت لصالحها في الانتخابات, وهذا تزييف صارخ يستدعي قراءة ما حدث في انتخابات الرئاسة منذ بدأت, وإلا فالوقوف عند النتيجة الأخيرة التي انتهت إليها يحجب الحقيقة ويوقع في الخديعة والضلال. ان أحدا لايستطيع أن ينكر أن كل ماتحقق باسم الثورة حتي الآن إنما تحقق في ظل الشروط والأوضاع الموروثة مما سبقها, فالثورة التي أسقطت مبارك لم تتبرأ من النظام الذي جاء بمبارك ولم تسدل الستار عليه, وهو نظام يوليو العسكري الدكتاتوري, والكلام عن دولة مدنية بمرجعية إسلامية يصب في تيار الدعوة للدولة الدينية, ويفتح الباب علي مصراعيه للإخوان والسلفيين الذين اتفقوا مع العسكر في الكثير حتي الآن, ولم يختلفوا إلا في القليل, وهذا ما رأيناه في الوزارات المتعاقبة, والتعديلات والاعلانات الدستورية, وفي انتخابات مجلسي الشعب والشوري, وأخيرا في الانتخابات الرئاسية التي أسفرت دورتها الأولي عن عودة النظام القديم بوجهيه اللذين يطارداننا اليوم كما يحدث في الكوابيس ويفرضان علينا أن نختار واحدا منهما كأنهما مختلفان, والحقيقة أنهما لقطتان لوجه واحد. نستطيع أن نقول إذن إن كل ماحدث بعد الثورة حدث علي النحو الذي رسمته ونفذته القوي والمؤسسات التي كلفها الرئيس المخلوع بإدارة البلاد من بعده, وقد تحركت هذه القوي وهذه المؤسسات في إطار هذا التكليف وداخل حدوده, فلم تتجاوزه إلا للتعمية. لقد كان علينا أن نبدأ بوضع دستور جديد يتبني أهداف الثورة وتجري علي أساسه الانتخابات البرلمانية والانتخابات الرئاسية, لكن المجلس العسكري والإخوان قرروا أن يضعوا العربة قبل الحصان فسار الحصان بظهره لا بصدره. ثم إن المصريين لم يصوتوا لأي من المرشحين المعروضين علينا الآن. أكثر من نصف أصحاب الحق في التصويت لم يصوتوا, والأصوات التي فاز بها المرشحان الباقيان لاتزيد عن ربع أصوات المشاركين, ولو كانت الانتخابات قد اجريت في مناخ ديمقراطي حقيقي لما حصل أيهما علي ماحصل عليه لأنه لايمثلنا ولايتحدث باسمنا, فبأي حق نشارك في انتخابات لايقصد منها إلادفن الثورة حية وإعادة الاعتبار للنظام الذي ثرنا عليه ؟! إنها ليست معركتنا وليس لنا فيها ناقة ولا جمل! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي