عندما زار وزير الخارجية الألمانى فرانك فالتر شتاينماير عاصمة ارمينيا يريفان فى خريف 2014 توجه من المطار مباشرة إلى النصب التذكارى لإحياء ذكرى الجرائم الجماعية التى تعرض لها ارمن الأناضول على يد الحكم العثمانى خلال الحرب العالمية الأولى وراح ضحيتها وفق تقديرات المؤرخين الغربيين نحو مليون ونصف المليون ارمينى ومنتمين لاقليات مسيحية اخري. وقد وضع شتاينماير اكليل الزهور دون ان يذكر كلمة “ إبادة جماعية” لوصف ما تعرض له الأرمن، فهذا خط احمر حرصت الحكومة الألمانية وحتى اليوم ورغم القرار الذى صوت عليه البرلمان الألمانى بأغلبية ساحقة لوصف هذه الجرائم بالإبادة الجماعية، على عدم تجاوزه! ومن الواضح ان ميركل تدعم القرار بشكل غير مباشر، كما أن حزبها المسيحى الديمقراطى إلى جانب الحزب الاشتراكى الديمقراطي- وهما الحزبان الحاكمان- فضلا عن حزب الخضر المعارض تقدموا بمشروع القرار للبرلمان.ومع ذلك فقد ارسلت المستشارة رسالة قوية لأنقرة بأن قرار البرلمان الألمانى غير ملزم لها وان موقف برلين الرسمى لم يتغير وذلك بغيابها هى ونائبها وزير الاقتصاد ورئيس الحزب الاشتراكى الديمقراطى زيجمار جابرييل وكذلك وزير الخارجية شتاينماير عن تصويت البرلمان بسبب “ارتباطات ومواعيد اخري”. ويبدو حرص المستشارة على احتواء الأزمة التى سببها هذا القرار البرلمانى الالمانى مفهوما فى ضوء إحتياج المانيالتركيا للاستمرار فى احتواء ازمة اللاجئين ومنع تدفقهم عبر البلقان وتطبيق بنود الاتفاق الأوروبى مع تركيا فى هذا الشأن. وهو ما يطرح تساؤلات حول إصرار البرلمان الألمانى على وصف الجرائم التركية فى حق الأرمن بانها إبادة جماعية فى هذا التوقيت؟! فى الأصل كان من المقرر ان يصدر البرلمان الألمانى هذا القرار فى ابريل من العام الماضى فى ذكرى مرور قرن على هذه الجرائم، ولكن الرئيس الالمانى يواخيم جاوك، والذى يتقلد ارفع مناصب الدولة الالمانية وان كان منصبا شرفيا، استبق البرلمان واستخدم وصف الإبادة الجماعية فى كلمته التى القاها بهذه المناسبة فى كاتدرائية برلين ليثير زوبعة تركية اعقبها هجوم إعلامى عنيف على المانيا فارتأى السياسيون فى البرلمان الالمانى تهدئة الاجواء بعدم التصويت على القرار وان كانوا قد ناقشوه باستفاضة مستخدمين وصف الإبادة الجماعية للأرمن. وبطبيعة الحال لم يكن احد ليتوقع ان تتغير الظروف الدولية خلال عام واحد لتصبح المانيا واوروبا بحاجة ماسة إلى تركيا لاحتواء أزمة اللاجئين. واصبحت التحذيرات التركية المتواصلة لألمانيا من إصدار القرار اكثر واقعية عن ذى قبل. رغم ذلك اصر البرلمانيون على إصدار قرارهم مبررين ذلك بأمرين: اولا ان المانيا وقبل اى دولة اخرى عليها ان تسارع بوصف هذه المذابح بوصفها الصحيح نظرا لمسئوليتها التاريخية المشتركة عنها بعد ان اثبت المؤرخون ان تحالف الرايخ الالمانى مع الدولة العثمانية والتعاون العسكرى والإستراتيجى بينهما بلغ مداه بل وشارك ضباط المان فى التخطيط لما حدث للأرمن ذوى النزعة القومية العالية والذين اتهموا بانهم طابور خامس لروسيا فى ذلك الوقت. والسبب الثانى ان القرار يؤكد وبوضوح مبدأ فصل السلطات فى المانيا الذى يتيح للبرلمان ممثل الشعب التحرك بحرية واتخاذ ما يريده من قرارات. فإذا كانت الحكومة الألمانية ملتزمة بسياسة واقعية قائمة على المصالح ولا تريد إثارة غضب تركيا اردوغان فإن للبرلمان مطلق الحرية فى إدانة الجرائم التركية فى حق الأرمن فى هذا الوقت تحديدا الذى تزداد فيه غطرسة الرئيس التركى فى التعامل مع أوروبا وتوجهاته السلطوية ضد شعبه وإذا اجل البرلمان الألمانى القرار مجددا فإن الشعب سيتهمه بالركوع امام انقرة وتهديداتها كما تتهم بذلك حكومة ميركل حاليا. لقد تسبب قرار البرلمان فى إنقسام الآراء فى المانيا فمعظم المؤيدين يرون انه جاء فى الوقت المناسب لإثبات عدم الإنبطاح الألمانى امام تركيا. ومن يرفضه يعتبره تدخلا المانيا سافرا فى الشان الداخلى التركي.على اعتبار أن الاحتذاء بالنموذج الألمانى ليس فرض عين على دول العالم، وأن قيام تركيا بعملية مراجعة تاريخية لمسئوليتها عن تلك الجرائم ثم التوصل لحقيقة كونها جرائم ابادة ضد شعب الأرمن والاعتراف بذلك وبدء مصالحة مع الماضي، كل ذلك مسئولية تركيا وليست مهمة البرلمان الألمانى وإلا كان من حق برلمان المانيا ايضا بل من واجبه ان يبدأ فى إدانة جرائم الستالينية والماوية وحكم الخمير الحمر وحرب فيتنام بحق البشرية! بالإضافة إلى ذلك يرى كثيرون وخاصة فى اوساط الجالية التركية ان القرار مجرد غطاء يخدم السياسة الداخلية الألمانية، فهو ضمن سلسلة اجراءات يريد بها سياسيو الائتلاف المسيحى الحاكم تحديدا استمالة قطاع عريض من الناخبين معاد للمسلمين والأتراك ويميل لإنتخاب الحزب اليمينى الصاعد البديل من اجل المانيا. غير ان الجدل حول القرار سينتهى وسيبقى فى النهاية السؤال المهم الذى غفل عنه الجميع: هل فتح البرلمان الالمانى بهذا القرار الطريق امام موجة جديدة غير مسبوقة من الدعوات القضائية من أقارب ضحايا الأرمن للحصول على تعويضات من برلين؟!