تعتبر تجربة التهجير والاضطرار للعيش كرها في المنفي, نتيجة للقمع أو الحروب أو الكوارث الطبيعية, سمة من السمات الفاصلة لتاريخ البشرية. وقد شهدت مراحل نشوء أدياننا الرئيسية حالات من التهجير والنزوح القسري الذي شكل جزءا من تاريخنا المشترك. ويبقي النزوح القسري واحدا من العواقب الأكثر وضوحا وعمقا التي ينطوي عليها الصراع والاضطهاد. كما يبقي نطاق النزوح هائلا وليس هناك ثمة مؤشرات علي تراجعه لقد أجبرت النزاعات المسلحة وانتهاكات حقوق الإنسان ما يقرب من 800.000 شخص علي طلب اللجوء في عام. 2011 وأسفر القتال الدائر في شمال مالي وحده هذا العام عن نزوح أكثر من 200000 شخص, كما أدت الأزمة في سوريا إلي اضطرار أكثر من 65000 شخص للبحث عن ملجأ في مكان آخر في المنطقة. وفي الوقت الذي تبرز فيه نزاعات جديدة, تستمر فيه نزاعات أخري قديمة, لتأخذ في كثير من الأحيان منحي أوضاع متزايدة التعقيد. وليست أفغانستان والصومال وشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية سوي أمثلة قليلة علي ذلك. هناك ملايين من الأشخاص العالقين في دوامة العنف والحرمان والنزوح داخل أوطانهم, في حين يجد أولئك الذين تمكنوا من الفرار وطلب اللجوء أنفسهم محاصرين في منفي يطول أمده. أما في باكستان وكينيا وشرق السودان, علي سبيل المثال, فهناك عشرات الآلاف من الأطفال اللاجئين الأفغان والصوماليين والإريتريين ممن كان أجدادهم آخر أفراد الأسرة الذين تمكنوا من رؤية أوطانهم. قبل عقد واحد فقط من الزمن, عاد ما يقرب من مليون لاجئ إلي ديارهم سنويا بمساعدة المفوضية. وقد انخفض هذا العدد بنسبة 80% نظرا لاستمرار انعدام الأمن أو الافتقار إلي سبل العيش, الأمر الذي يثبط رغبة اللاجئين بالعودة. وفي حين أن عمليات السلام قد أحدثت تغييرا إيجابيا, وسمحت لأعداد كبيرة من الناس بالعودة إلي ديارهم, إلا أنه يمكن للنزاعات العالقة إلي الآن أن تشعل فتيل عمليات نزوح جديدة. وهذا هو الحال علي طول الحدود بين السودان وجنوب السودان, والذي من أجله نقوم حاليا برفع مستوي عمليات المفوضية الطارئة في جنوب السودان وإثيوبيا. ولا تزال الحلول الأخري غير العودة إلي الوطن بعيدة المنال علي حد سواء. وتجد البلدان النامية, التي تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية خاصة بها, نفسها مترددة في تقديم فرص حقوق الإقامة الدائمة للاجئين, وإمكانية إعادة بناء حياتهم. وعلي الرغم من أن عددا متزايدا من الدول الصناعية تستقبل اللاجئين من خلال برامج منظمة لإعادة التوطين, إلا أن عدد الأماكن المتاحة في كل عام يتسع لأقل من1% من مجموع اللاجئين في العالم. وبينما يبقي الاضطهاد والنزاعات المسلحة محور النزوح القسري, إلا أن هناك عوامل أخري تلعب دورها وتغير ديناميكيات النزوح ويمكن لها أن تؤثر تأثيرا عميقا علي أساليب عملنا. لقد أصبحت محفزات وأنماط النزوح معقدة, حيث بات وقوع أحداث في دولة معينة يتسبب في عدم الاستقرار إلي ما هو أبعد من حدودها. وفي الربيع العربي, فقد أدي تصرف فردي معبر عن الرفض إلي إنتاج ظاهرة إقليمية في تحدي هياكل الحكم. لقد عاد المهاجرون الفارون من الاضطرابات في ليبيا إلي مالي, ليجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل في منطقة تندر فيها الموارد باستثناء سهولة الحصول علي الأسلحة, ويتحول الفقر فيها إلي صراع وعدم استقرار سياسي. وعلي نحو متزايد, يظهر النزوح وتعززه عوامل عدة مثل الكوارث الطبيعية, والتصحر, والنمو السكاني, والتحضر السريع, وانعدام الأمن الغذائي, وندرة المياه, وأعمال العنف المتصلة بالجريمة المنظمة. وغالبا ما يزيد تغير المناخ من تفاقم هذه الدوافع الأخري للنزوح. وعلاوة علي ذلك, فإنه لا يعترف بأي حدود. ومع وجود العولمة والاقتصادات والموارد الطبيعية والأمن, والتي تربط مصائرنا أكثر من أي وقت سبق, فإن التحديات المتزايدة المتمثلة في الحصول علي الموارد الأساسية قد تتحول إلي مظالم سياسية وصراعات. إنه من مصلحتنا جميعا التصدي لهذه التحديات من خلال استراتيجيات وقائية للتخفيف من آثارها, وعن طريق آليات لحل النزاعات, والتي تشمل المجتمعات المحلية المتأثرة بالنزوح. ويبقي معظم هؤلاء النازحين داخل حدود بلدانهم, حيث قد تكون الاستجابة لهم محدودة من قبل حكوماتهم. فإن عبروا الحدود, فإن الثغرات الموجودة في الإطار القانوني قد تعني أنهم ليسوا دائما قادرين علي الاستفادة من الحماية والمساعدة الممنوحة للاجئين. وهنا تبرز الحاجة لبذل المزيد من الجهود لدعم الدول في الحد من النزوح القسري, فضلا عن توفير الحماية والحلول الملائمة للسكان المتضررين. وبالرغم من كل ذلك, فإن ما يثلج صدري هو أن العديد من الدول, خاصة في العالم النامي تستمر في الإبقاء علي حدودها مفتوحة أمام اللاجئين. إن أكثر من 80% من اللاجئين تتم استضافتهم داخل مناطقهم, وغالبا ما يكون ذلك في بلدان تصارع من أجل تلبية احتياجات مواطنيها. ينبغي علينا أن نقدم لهذه الدول الوسائل اللازمة لتحمل عبء هذه المسئولية, بما في ذلك من خلال السعي الجماعي لإيجاد الحلول, وأن يكون أحد جوانبها الرئيسية الاستثمار في التنمية المستدامة في المناطق المتأثرة. كما أنه من الملهم بالنسبة لي حقيقة أننا ما زلنا نشهد سخاء لا نظير له من قبل السكان المضيفين والمتضررين بشكل مباشر من جراء وصول اللاجئين, حيث يجري تقاسم المنازل, والطعام, والأراضي والخدمات الصحية والتعليمية. إن إيجاد حلول للاجئين مرتبط بمعالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع, ومع استعادة الأمن وعودة اللاجئين, فإن الحصول علي الخدمات وسبل العيش وسيادة القانون يعتبر أمرا ضروريا. وهنا يمكن للتعاون في مجال التنمية, سواء كان ماليا أو تقنيا, أن يلعب دورا أساسيا, ومع ذلك فلا يزال هذا الجانب غير مستغل إلي حد كبير. فعلي سبيل المثال, تعمل المفوضية مع شركائها في مجال التنمية في المجتمعات المضيفة في شرق السودان ونيبال من أجل تعزيز فرص كسب العيش, وإصلاح المناطق المتدهورة بيئيا. وكتعبير ملموس عن التضامن الدولي, فإن مثل هذه البرامج ترفع من مستوي التماسك الاجتماعي. وفي ظل البيئة الاقتصادية العالمية الصعبة, فمن السهل أن ينشغل المرء بالمصالح المباشرة, وأن يغفل عن هذه القيم التي نتقاسمها جميعا. ولهذا فإن من الضروري أن تبقي الخسارة والمعاناة التي يتكبدها اللاجئون, فضلا عن العزيمة الهائلة التي يتمتعون بها, مؤثرة علي مخيلتنا الجماعية وأن تولد الشعور بالمسئولية ويجب علينا إيجاد طرق مبتكرة ومستدامة لتقديم دعمنا لأولئك اللاجئين والنازحين ومن يستضيفهم. وليس هذا مجرد تفكير منطقي, بل إنه مظهر من مظاهر إنسانيتنا المشتركة.