كانت المرة الأولى التى أرى فيها توصية طبية بتوجيه المريض إلى الطبيب المشعوذ لعلاجه. وفى مساء اليوم نفسه التقيت طبيبا هولنديا صديقا كان يعمل بمستشفى ملاصق لمكان عملى فى قرية نائية اسمها «نانكودو» بمنطقة «رندو» شمال «ناميبيا», بيته صغير مثل بيتي، بناية من طابق واحد، تضم حجرتين وصالة ومطبخ وحديقة صغيرة. ويفصل بيتينا نصف كيلومتر فقط, أقطعها مشيا وسط حشائش جافة, وماشية شاردة , وشجيرات شوك متناثرة, وجحور قوارض, وتلال للنمل. ذهبت إليه لاستفسر عن تلك التوصية الغريبة لأحد طلابى كنت قد أرسلته إلى الفحص الطبي. فرد صديقى الطبيب الهولندى مندهشا: «ألا تعرف أن الطبيب المشعوذ يفوقنى فى الأهمية»! وأنه بالفعل يستطيع علاج الحالات التى يستعصى علاجها, أو يصعب تشخيصها علينا, وهى فى غالبيتها حالات «سيكوسوماتية» جسمية نفسية, كما أنه يمكنه علاج الأمراض التى لا تحتاج إلى طبيب لشفائها, مثل الصداع, والبرد, والأنفلونزا, وبعض أمراض الحساسية, وبعض حالات الآلام الوهمية للعضلات, وللأعصاب, ومما لا شك فيه أن التأثير النفسى والمعنوي, يساعد الجسد المريض على استعادة حيويته». واستغرب سؤالى عن المساءلة القانونية، وأخبرنى بأننى أجهل أشياء كثيرة عن وضع وأهمية العلاج الروحي, والطب البديل الذى يستمد جذوره من الطب الشعبى وهو منتشر فى العالم, وميزته أنه يتعامل مع المريض ككل، الجسد والنفس والروح، خاصة فى مناطق الغابات والقرى البعيدة عن العمران. ثم قال مدافعا عن الطبيب المشعوذ: «هو لا يمارس الشعوذة, ولكنه فى حالات كثيرة يعالج تأثير الشعوذة على المريض, بإزاحة تأثير السحر الذى أخل باتزانه, وعلى فكرة هناك بينى وبينه تعاون وثيق, وإضافة إلى وصفاته التقليدية, يوصى مرضاه بتناول ما أصفه لهم من دواء». ولم أستطع فهم ضحكته إذا كانت تعنى الجدية أم المزاح. الغريب أن هذا الصديق الهولندى هو الذى ذكرنى بأسلافي, ب «أمنحتب» مهندس «الملك زوسر» الذى بنى له الهرم المدرج بسقارة, حيث قال عنه: «إنه كان أحد أهم الأطباء المشعوذين فى العالم القديم, وكثير من البرديات تروى قصصا عن السحر المصرى وعن التداوى الروحى والعشبي, وفى كتاب الموتى بعض الوصفات والتعاويذ السحرية التى تبتهل إلى الآلهة لطرد الأرواح الشريرة. وهناك حكاية معروفة عن «الملك سنفر» الذى طلب من كاهنه أن يخرجه من سأمه, فنصحه بالتريض مع بعض الراقصات عند البحيرة, وهناك فقدت إحداهن وشاحها فى ماء البحيرة, فما كان من الملك إلا أن طلب من كاهنه أن يحضرها, وبالفعل تمتم الكاهن بتعويذته فانحسرت مياه البحيرة واستعادت الفتاة وشاحها, وبالتعويذة نفسها أعاد المياه إلى حالتها. وبالبحث وجدت أن الطبيب المشعوذ له بالفعل سطوته وهيبته, ويتمتع بقوة روحية عظيمة, وأذكر أننى عندما كنت أعمل فى نيجيريا طالعت خبرا فى صحيفة أسبوعية عن طبيب مشعوذ لقب نفسه ب «رجل الله», أعلن فيه قدرته على إشفاء المرضي, وإنزال الأمطار, ومع الخبر صورة له وهو يصافح مسئولا كبيرا. ومن السهل على من يعتقد امتلاك هذه القوى الخفية السيطرة على مرضاه بالإيحاء, ليتمكن من تمرير طاقته الشافية إليهم، وغالبية المواطنين الأفارقة يثقون فيهم, ويفضلونهم على الأطباء. وتابعت حالات تكفل بها طبيب القرية المشعوذ, فوجدتهم يستجيبون لعلاجه بارتياح شديد، وغالبا يقدم لمرضاه وصفات علاجية من أعشاب ونباتات وأملاح معدنية وأجزاء من حيونات, قد تدهن, أو تشرب, أو ترش على أجساد المرضي, أو تخلط بطعامهم, ويدعى قدرته على علاج جميع الأمراض, والعلل الاجتماعية, بما فيها الحب, والزواج, وسوء الطالع, والضعف الجنسي, وغيرها من الاحتياجات. ولم يبخل عليَّ زملائى وتلاميذى بأى معلومات عن طبيب القرية المشعوذ. واستفسرت مرة من أحد تلاميذى عما فعله معه الطبيب المشعوذ الذى عالجه من صداع مزمن بعد جلستين, فأخبرنى بأنه وهو يغمغم بلغته الخاصة ظل يضغط بيده على أماكن معينة فى رأسه, ضغطات قال عنها إنها كانت من القوة بحيث شعر بتنميل فى رأسه, ثم دهن جبهته بخلطة عشبية , عصبها بعد ذلك بشريط أسود, خلعه بعد يومين أثناء الجلسة الأخيرة. وأردت مقابلته فحددوا لى معه أكثر من موعد, لكنه كان يعتذر لانشغاله, واحتسبت تمنعه نوعا من الحرج خشية أن أسىء فهم تقاليدهم القبلية. ويسمى الناس هناك الطبيب المشعوذ «سانجوما» «Sangoma»، والعشبى «انيانجا inyanga»، بلغة «الزولو»، وهى لغة شائعة فى جنوب أفريقيا، وهؤلاء الأطباء الشعبيون يلعبون دورا حيويا وفعالا فى كل مناحى الحياة الاجتماعية والسياسية, فى طقوس الميلاد والموت, وحماية المحاربين من الأرواح الشريرة, وإبطال أعمال السحر الأسود, وكشف السرقات وأماكن اختفاء المواشي. إضافة لما تردده عنهم الحكايات الشعبية والأساطير. وبلغة «البانتو» وهى كلمة تعنى «الناس», يطلق على الطبيب المشعوذ «Nganga» ولها معان عديدة مثل «الحكمة والبصيرة والمعرفة والقدرة على الاتصال بالعالم الآخر»، وكلمة «mganga» فى السواحيلية تعنى «طبيب». واقترن اللقب فى «الكونغو» برجال الدين الذين اعتنقوا المسيحية نهاية القرن التاسع عشر، والوسطاء الروحانيين الذين يسمونهم «Nganga a Nzambi»، وفى زمبابوى «N,anga» مهنة علاجية رسمية معترف بها, تمزج المعالجة الروحية بالتداوى بالأعشاب والأدوية, وبعض هؤلاء الأطباء حاز شهادات علمية عالية فى هذا التخصص من جامعات أوروبية. ولم يعد سرا أنهم يستعينون بالأطباء المشعوذين لحل مشاكل اجتماعية وسياسية كثيرة. حتى أن المحاربين من أجل التحرير استعانوا بهم فى حربهم ضد الاحتلال العنصرى فى غابات روديسيا. وفى القرية التى كنت أعمل بها, وتقع على الحدود بين ناميبيا وأنجولا, اعتدت النوم على نوعين من الأصوات, مولد الكهرباء, ودقات الطبول, وعلى أنغام الأخيرة كنت أتخيل الطبيب المشعوذ بهيئته المهيبة, وملابسه الغريبة من الجلود الناعمة للحيوانات البرية وريش الطيور والأسنان والقرون, والأقنعة, وبوجهه الملون بخطوط لها مغزاها, فالدوائر البيضاء حول العين تعنى البصيرة, والخطوط الحمراء على الجبهة والوجنتين توحى بالقوة والقدرة على الشفاء. كنت أتخيله وهو يهيمن بإيحاءاته, وطقوسه, من الرقص والصياح, والغمغمات المبهمة, ودق الطبول. وتأخذنى مخيلتى إلى الأسلاف الماثلين فى ذاكرتهم, ولا يخلو طقس من إعلان عن الولاء لهم وتقديرهم لأرواحهم, ويقدمون الأضاحى من أجلهم, ويؤدون الصلوات على أرواحهم, لطرد الأرواح الشريرة من جسد المريض الذى يكون مستسلما دائما لحد الغيبوبة المقدسة، تحت الجهد والإعياء, وليس أمامه سوى أن يدع روحه تساعد جسده على الشفاء. وهذه الحالات فى قرى النائية وسط الأحراش, تلعب دورا كبيرا فى مكانة الطبيب المشعوذ ، فلو حدث مكروه أو كارثة, مثل نفوق الحيوانات، أو موت الزرع، أومرض إنسان, يربطون هذه الأحداث بلعنة من شخص ما, والضعفاء عادة هم من يتحملون وزر هذه اللعنات. وليس كل ما يأتى به الطبيب المشعوذ خيرا, فهناك ممارسات غير مسئولة قد تودى بحياة المريض, مثل الضرب المبرح, ومازلت أتذكر ألم ما يعانيه «الألبينو» فى دول شرق أفريقيا، خاصة فى تنزانيا, نتيجة فتوى بشعة أطلقها بعض الأطباء المشعوذين بالسماح باستغلال أجزاء من أجساد «الألبينو» بذريعة أن لأجزاء من جسدهم خواص تجلب الحظ والثروة. والشخص الأمهق «الألبينو» هو المعروف ب «عدو الشمس»، وهى حالة تنتج عن طفرة وراثية تنعدم فيها صبغات لون الجلد والشعر والعين, ويدفع الأطباء المشعوذون ثمناً كبيرا لهذه الأجزاء، وللجسد كله مبالغ طائلة، بغض النظر عن تشويه أجساد هؤلاء التعساء أو قتل بعضهم, وغالبا من الأطفال, وبناء على تقرير للأمم المتحدة وصل عدد الذين قتلوا فى تنزانيا منذ عام 2000 قرابة 80 شخصا من «الألبينو»، بالرغم من تنبه الحكومة لتلك الجرائم البشعة, ومحاولتها حمايتهم فى القري، إلا أنه من وقت لآخر تقع جريمة من هذا النوع، ما دفع غالبية «الألبينو» للنزوح من القرى إلى المدن الكبرى كونها أكثر أمانا. وللقضاء على هذه الظاهرة أصدرت الحكومة التنزانية قرارا فى يناير 2016 بمنع ممارسة الطب المشعوذ, وفى تقرير ل «بى بى سي» فى 12 مارس 2015 وصل المقبوض عليهم بتهمة قتل «الألبينو» أكثر من مائتى طبيب مشعوذ, واعتذروا عن هذه الممارسات غير الإنسانية تم مؤخرا تعيين نائب وزير «ألبينو» فى الحكومة التنزانية. وفى «مالاوى» جنوب شرق أفريقيا قامت الحكومة بتوفير مساكن خاصة لإيواء «الألبينو» تحت حماية الشرطة والجيش مع أوامر مشددة بإطلاق النار على أى شخص يتعرض لهم بالأذي، بعدما زادت الحوادث البشعة لبيع أعضائهم للمشعوذين، وقد اتجه إلى مالاوى فريق من الأممالمتحدة للتحقيق فى الموضوع.