أظهرت نتائج الجولة الأولي في الانتخابات الرئاسية في مصر التي جرت يومي23 و24 مايو 2012 عدة دلالات ذات أهمية ومغزي من ناحية التحليل العلمي. إن النتيجة كانت شبه مفاجأة فكانت التوقعات تشير إلي احتمال الإعادة بين محمد مرسي وعبد المنعم أبو الفتوح أو بين عمرو موسي وعبد المنعم أبو الفتوح. أما المفاجأة الثانية فكانت بروز حمدين صباحي إلي المكانة الثالثة. إن الشعب المصري بوعيه التاريخي وحسه السياسي هو الذي فرض النتيجة التي ظهرت في الجولة الأولي وهو الذي سيفرض النتيجة النهائية. وهنا نقول إن التحليل العلمي يظهر لنا أن الشعب المصري أكثر وعيا من النخب المثقفة أو النخب السياسية الحاكمة, سواء في عهد مبارك أو في عهد صعود قوي الإسلام السياسي غير المدركة لحقيقة وشخصية وهوية الشعب المصري ووضع القوي السياسية في إطار هذا الشعب. كما أن هوية الشعب المصري هي هوية متنوعة وهي هوية متعددة الطبقات الحضارية من فرعونية إلي قبطية إلي إسلامية. فمصر دولة حضارية قبل ظهور الأديان السماوية الثلاثة, أما البعد الثاني في الهوية المصرية فهو الاهتمام بالأمن الوطني, والبعد الثالث في الهوية المصرية يتمثل في سيطرة مباديء التسامح والاعتدال والواقعية السياسية والدينية علي تلك الهوية. إن تاريخ مصر صنعه الشعب المصري بقيادة حاكمه, ولذلك عندما ظهر الملك مينا وقام بتوحيد القطرين, ذلك هو ما تطلع إليه الشعب, وعندما جاء الملك أحمس وقام بتحرير البلاد من الهكسوس هو عبر عن الروح المصرية الأصيلة في التحرر ونفس الشيء نجده في العصور الإسلامية عندما جاء الفاطميون وأقاموا دولتهم رحب بهم المصريون, ولكنهم بقوا علي مذهبهم السني رغم أن الحكام كانوا من الشيعة الإسماعيلية وما أن جاء صلاح الدين الأيوبي حتي وجد الأرض مهيأة لعودة الوحدة بين الحاكم والمحكوم. فالواهم هو من تصور أن شباب الثورة هم فقط الثورة, والوهم من تصور الحركة المباركة في25 يناير إنها كانت ثورة مكتملة الأركان, إنها كانت كما يري بعض المؤرخين أنها حالة ثورة أو حركة ثورة, رغم أنني وصفتها بالثورة في كتابي عن ثورة25 يناير, ولكنني حذرت من الوقوع في الأوهام وهي أن الثورة قام بها فقط الشباب, ونسوا أن الثورة هي حركة شعب بأسره, وان الجيش كان جزء لا يتجزأ من الثورة, وان الإخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي كان جزء لا يتجزأ من الثورة, وان جموع الفلاحين والعمال كانوا شركاء, ولذلك فلا فضل لفريق علي آخر, ولا يستطيع فريق واحد أن يدعي من منظور علمي انه صاحب الثورة أو إن الثورة اختطفت منه. من الواجب أن تدرك أن العمل السياسي هو عمل مستمر وسط الجماهير وليس في ميدان من الميادين مهما كانت قيمته الرمزية, والعمل السياسي هو إنتاج لخدمة الجماهير وليس تظاهر فئوي أو مصلحي, ولهذا اخفق المتظاهرون بلا عمل ايجابي, ونجح المتظاهرون العاملون وسط الجماهير الذين أعطوا الإنتاج أولوية, والذين أعطوا الآمن أولوية, لقد اخذ فريق من الشباب الثوري يتباكي علي اللبن المسكوب فلم يحققوا ما تصوروه خطأ من أهداف الثورة وهي أهداف تداعي الحديث عنها مع مضي الوقت في منطق من المزايدة حينا والمبالغة حينا آخر. وانساق البعض وراء بلطجية النظام السابق وظنوهم شهداء واخذوا يدافعون عنهم ويساعدونهم في تحطيم المنشئات الحيوية, وهو انسياق وراء سلوك غريب لا يمت للثورة إذ إن هناك فارقا بين تغيير النظام وبين تحطيم أجهزة الدولة, وهو الفارق بين الثوري والفوضوي. الواقع إن العمل السياسي هو عمل مستمر وفقا لقواعد قانونية سليمة ينبغي علي الجميع القبول بقواعدها, فصندوق الانتخابات هو الفيصل في من يحكم لمدة محددة, يعود بعدها القرار للشعب مرة ثانية. إن المنهزم عليه ان يعود مجددا للعمل وسط الجماهير لإقناعهم بمنطقه أن التظاهر بلا هدف لمجرد التظاهر بدعوي أن الثورة مستمرة أو بدعوي أن الثورة لم تحقق أهدافها, علي القائد الجديد لمصر سواء محمد مرسي أو احمد شفيق أن يعرف جيدا انه جاء عبر صندوق الانتخابات, وانه سوف يغادر بعد فترة عبر صندوق الانتخابات, ولم يأت بإرادة المرشد أو بأية إرادة أخري, فالحكم في مصر هو حكم مدني وليس حكما دينيا. المزيد من مقالات د. محمد نعمان جلال