كانت «جارية سوداء» أو «سوداء حالكة» بتعبير المؤرخ المعروف «ابن تغرى بردي». أحد رُواة الحكاية، حيث استغرب زواجها من ثلاثة ملوك، وقال :«هذا ثالث سلطان» من أولاد ابن قلاوون تزوج بهذه الجارية السوداء، وحظيت عنده، فهذا من الغرائب على أنها كانت سوداء حالكة لا مولدة، فإن كان من أجل ضربها بالعود وغنائها، فيمكن من تكون أعلى منها رتبة فى ذلك، وتكون بارعة الجمال بالنسبة إلى هذه« فسبحان المسخر». وأضاف: «إنها من الغرائب». وكانت «اتفاق» قد شبَّت فى مدينة بلبيس لدى امرأة من أهل الغناء، واشترتها منها امرأة قاهرية بأقل من أربعمائة درهم. وكانت من أهل المغاني، وعادة النخاسين وقتذاك كانت انتقاء الجاريات اللائى يتوسمن فيهن المواهب، ويرسلوهن إلى بيوت الغناء ليتعلمن على يد أساتذة مشهود لهم فى الموسيقى والطرب. والجارية التى تجيد الغناء والعزف كانت هى الأغلى ثمنا، والمطلوبة أكثر فى بلاط السلاطين، وهذا تحديدا ما طمعت فيه السيدة القاهرية التى اقتنت «اتفاق»، فقد بادرت بإرسالها إلى موسيقى مشهور وقتها يدعى «عيد على العجمي» ليعلمها الأصوات والألحان، وأظهرت «اتفاق» مهارة كبرى فى العزف والغناء، فقررت سيدتها تقديمها للمقام السلطاني، لتعظيم المنفعة. وذهبت «اتفاق» إلى هناك. كان السلطان وقتها هو «الصالح إسماعيل» الذى حكم مصر من (743 إلى 746 ه)، وهو ابن السلطان الناصر «ناصر الدين محمد» بن السلطان الملك «المنصور قلاوون». وكان السلطان «الصالح إسماعيل» هذا شغوفاً باللهو والطرب، مُحباً لأصحاب الملاهي، حتى أن الخدم والطواشية فى عهده صرَّفُوا شئون المملكة، وكان متولعاً بالجوارى السود، فلما دخلت عليه «اتفاق» وقعت فى قلبه، وحين سمعها شغفته، ولم يتمالك نفسه فاتخذها محظية، وأسرف لها فى العطاء، وأقامت عنده فى القلعة، فملكت عليه نفسه، بالغناء والعزف، والدلال، وشاءت الظروف أن تحمل منه، وتنجب له ولدا ذكرا، فمكنها هذا أكثر، وأتاحت لها تقدما ونفوذا أكبر، وفرح السلطان بقدوم ابنه «ولى العهد» فرحا طاغيا، فأقام الحفلات الباهرة فى قاعة الدهيشة، وصارت «اتفاق» أم ولد، فلا تباع ولا تُهدى، وتصير بعد وفاة زوجها حُرَّة، وكثير من أبناء الجوارى تولوا الحكم فى الإسلام، وغدت «دُرَّة البيت القلاووني». ولم يمهل القدر السلطان «الصالح إسماعيل» فمرض مرضا شديداً ومات، وتولى الحكم بعده أخوه السلطان الملك الكامل «سيف الدين شعبان» الذى حكم مصر من (746- 747 ه) لسنة وشهرين فقط، وكان «سيف الدين شعبان» هذا شغوفاً ب «اتفاق العوَّادة» كما كانوا يسمونها فى البيت السلطاني، وما أن مات أخوه حتى تزوجها، وتفرغ لإسعادها. وكان السلطان قبلها متزوجا من بنت الأمير «بكتمر الساقي»، فطلقها وتزوج بأختها، وأنجب منها ولدا ذكرا سرعان ما مات. ثم ولدت له «اتفاق» ولدا ذكرا أسماه «شاهنشاه»، وسُرَّ به سُروراً زائداً، فأقام له الأفراح سبعة أيام. وأعطت الدنيا وجهها ل «اتفاق»، وأغدق عليها السلطان و«عمل لها دائر بيت طوله اثنتان وأربعون ذراعا، وعرضه ست أذرع، دخل فيه (صُرف عليه) خمسة وتسعون ألف دينار مصرية، وذلك خارج (بخلاف) عن البشخاناة (الكُلَّة أو الناموسية)، والمخادع والمساند، وأمر بصناعة أربعون بذلة ثياب مرصعة بالجواهر لها، وستة عشر مقعدا مزركشا، وثمانون مقنعة فيها (صُرف عليها) ما قيمته عشرون ألف درهم، وأشياء غير ذلك. وهكذا أغدق عليها الملك الكامل، وجعل أيامها أطيب وأجمل من عهد أخيه الراحل، وباتت «اتفاق» ترفل فى ملابس مُوشَّاة بالأحجار الكريمة والذهب. لكن السلطان الكامل كان ظالما وسفاكاً للدماء، أثار ضغينة أمراء المماليك، وحكام الأقاليم، واشتد بينه وبينهم القتال، وتمكنوا منه فى النهاية، وقبضوا عليه، وألقوه فى السجن، وسرعان ما قتلوه، وتولى السلطنة بعده أخوه الملك المظفر «زين الدين حاجي» المعروف ب «أمير حاج» أول (جمادى الآخرة 747ه)، إلى شهر (رمضان 748 ه) أى حكم مصر سنة وثلاثة أشهر. وأمر «الملك المُظفَّر» فور توليه السلطة بإنزال «أم الملك الكامل وحريمه» من القلعة، فنزلن ومعهن «اتفاق»، وصادر ممتلكاتهن، وبعد قليل أمر بإعادتها إليهن. ولم يطل بقاء «اتفاق» خارج القلعة، فبعد عدة شهور أمر الملك المظفر بعودة «اتفاق» إلى القلعة، فطَلَعَت بجواريها وخُدَّامها، وتزوجها المظفر فى الخفاء، وعقد له عليها «شهاب الدين أحمد بن يحيى الجوجري» (نسبة إلى قرية جوجر التابعة لمركز طلخا)، وكان زفافه عليها فى الليلة ذاتها، وفرش تحت قدميها ستين شُقة أطلس، ونثر عليها الذهب، فأمسكت بعودها وعزفت، وأحسنت الغناء، وابتهج السلطان، وأنعم عليها بأربعة فصوص وست لؤلؤات ثمنها أربعة آلاف دينار، وفق «ابن تغرى بردي»، وأفرط السلطان فى شغفه ب «اتفاق»، حتى شغلته عن أمور الحكم، وأثار هذا لغط أمراء المماليك، وبلغ السلطان غضبهم، وقرر القبض على بعضهم، لكن النائب حذره من فعل كهذا فأمسك عنه، ولتخفيف وطأة الصدام مع الأمراء، أمر بإنزال ثلاث نساء من القلعة بينهن «اتفاق»، بما عليهن من الثياب مع تجريدهن من الجواهر، وأن تقلع «اتفاق» عصابتها، والعصبة بها مئة ألف دينار ذهب، اشترك ثلاثة ملوك فى إعدادها، وتحدث الناس كثيرا عنها. لكن قرار إنزال اتفاق لم يكن نهائيا، بل لفترة، حتى يتمكن السلطان من قتل أعدائه، ثم يعيدها إلى القلعة، لتعود المسرات. وفى كتابه «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة» ذكر المؤرخ «ابن تغرى بردي»: وسبب إخراج «اتفاق» وهؤلاء من الدور السلطانية أن الأمراء الخاصكية «قرابغا» و«صمغار»، وغيرهما، بلغهم إنكار الأمراء الكبار والمماليك السلطانية، شدة شغف السلطان بالنسوة الثلاث المذكورات، وانهماكه على اللهو بهن، وانقطاعه إليهن بقاعة الدهيشة عن الأمراء، وإتلافه الأموال العظيمة فى العطاء لهن ولأمثالهن، وإعراضه عن تدبير الملك. فعرف السلطان إنكار الأمراء، وخوَّفُوه عاقبة ذلك، فتلطف بهم وصوب ما أشاروا به عليه من الإقلاع عن اللهو بالنساء. وأخرجهن السلطان وفى نفسه حزازات لفراقهن، تمنعه من الهدوء والصبر عنهن، فأحب أن يتعوض عنهن بما يلهيه ويسليه، فاختار صنف الحمام، وأنشأ حضيراً على الدهيشة، ركَّبَه على صوارى وأخشاب عالية، وملأه بأنواع الحمام، فبلغ مصروف الحضير خاصة سبعة آلاف درهم، واستمر خاطر السلطان موغراً على الجماعة من الأمراء بسبب اتفاق وغيرها، إلى أن كان يوم (الأحد تاسع عشر شهر ربيع الأول من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة)، كانت الفتنة العظيمة التى قتل فيها «ملكتمر الحجازي» و«آق سنقر» وأمسك «بزلار وصمغار وأيتمش عبد الغني»، وسبب ذلك أن السلطان لما أخرج «اتفاق» وغيرها، وتشاغل بلعب الحمام، صار يحضر إلى الدهيشة الأوباش، ويلعب بالعصا لعب صباح، ويحضر الشيخ «على بن الكسيح مع حظاياه»، يسخر له، وينقل إليه أخبار الناس. فشق ذلك على الأمراء وحدثوا «ألجيبغا وطنيرق»، وكانا عمدة السلطان وخاصكيته، بأن الحال قد فسد. فعرف السلطان ذلك، فاشتد حنقه، وأطلق لسانه، وقام إلى السطح وذبح الحمام بيده بحضرتهما، وقال لهما:«والله لأذبحنكم كما ذبحت هذه الطيور»، وأغلق باب الدهيشة؛ وأقام غضبان يومه وليلته. وكان الأمير «غرلو» قد تمكن من السلطان فأعلمه السلطان بما وقع، فنال «غرلو» من الأمراء وهون أمرهم عليه، وجَسَّرَه على الفتك بهم والقبض على «آق سنقر». فأخذ السلطان فى تدبير ما يفعله، وقرر ذلك مع «غرلو». ثم بعث «طنيرق» فى يوم الأربعاء (خامس عشر شهر ربيع الآخر) إلى النائب يعرفه أن «قرابغا القاسمى وصمغار وبزلار وآيتمش عبد الغني» قد اتفقوا على عمل فتنة، «وعزمى أن أقبض عليهم قبل ذلك»، فوعده النائب برد الجواب غداً على السلطان فى الخدمة، فلما اجتمع النائب بالسلطان أشار عليه النائب بالتثبت فى أمرهم حتى يصح له ما قيل عنهم. ثم أصبح فعرفه السلطان فى يوم الجمعة بأنه صح عنده ما قيل بإخبار «بيبغا أرس» أنهم تحالفوا على قتله؛ فأشار عليه النائب أن يجمع بينهم وبين «بيبغا أرس»، حتى يُحاقّقهم بحضرة الأمراء يوم الأحد. وكان الأمر على خلاف هذا، فإن السلطان كان اتفق مع «غرلو وعنبر السحرتي» مقدم المماليك على مسك «آق سنقر وملكتمر الحجازي» فى يوم الأحد. فلما كان يوم الأحد (تاسع عشر ربيع الآخر) المذكور حضر الأمراء والنائب إلى الخدمة على العادة بعد العصر ومُدَّ السماط، وإذا بالقصر قد ملئ بالسيوف المسللة من خلف «آق سنقر والحجازي»، وأحيط بهما وب «قرابغا»، وأُخذوا إلى قاعة هناك. فضرب «ملكتمر الحجازي» بالسيوف وقطع هو و«آق سنقر» قطعاً. وهرب «صمغار وآيتمش عبد الغني»، فركب صمغار فرسه من باب القلعة، وفر إلى القاهرة، واختفى أيتمش عند زوجته. وخرجت الخيل وراء صمغار حتى أدركوه خارج القاهرة؛ وأخذ أيتمش من داره، فارتجت القاهرة وغُلِّقَت الأسواق وأبواب القلعة. وكثر الإرجاف إلى أن خرج النائب «أرقطاي»، والوزير «نجم الدين محمود بن شروين» قريب المغرب، وطلبا الوالى ونودى بالقاهرة، فاشتهر ما جرى بين الناس، وخاف كل أحد من الأمراء على نفسه. ثم رسم السلطان بالقبض على الأمراء «مرزة علي، وعلى محمد بن بكتمر الحاجب وأخيه، وعلى أولاد أيدغمش، وأولاد قماري». وأخرجوا الجميع إلى الإسكندرية هم و«بزلار وأيتمش وصمغار»، لأنهم كانوا من ألزام الحجازى ومعاشريه، فسجنوا بها. وأخرج «آق سنقر وملكتمر الحجازي» فى ليلة (الإثنين العشرين من شهر ربيع الآخر) على جنويات فدفنا بالقرافة. وأصبح الأمير شجاع الدين غرلو وقد جلس فى دست عظيم، ثم ركب وأوقع الحوطة على بيوت الأمراء المقتولين والممسوكين وعلى أموالهم، وطلع بجميع خيولهم إلى الإسطبل السلطاني. وضرب غرلو عبد العزيز الجوهرى صاحب آق سنقر وعبد المؤمن استاداره بالمقارع، وأخذ منهما مالاً جزيلاً؛ فخلع السلطان على الأمير غرلو قباء من ملابسه بطرز زركش عريض، وأركبه فرساً من خاص خيل الحجازى بسرج ذهب وكنبوش زركش. ثم خلا به بأخذ رأيه فيما يفعل، فأشار عليه بأن يكتب إلى نواب الشام بما جرى، ويعد لهم ذنوباً كثيرة، على الأمراء الذين قبض عليهم. وأخذ السلطان الملك المظفر يستميل المماليك السلطانية بتفرقة المال فيهم، وأمر منهم جماعة؛ وأنعم على «غرلو» بإقطاع أيتمش عبد الغني، وأصبح غرلو هو المشار إليه فى المملكة، فعظمت نفسه إلى الغاية، وتولى غرلو بيع قماش الأمراء وخيولهم. ثم فى يوم (الخميس خامس عشره) قبض السلطان الملك المظفر هذا على أعظم أمرائه ومدبر مملكته الأمير «شجاع الدين غرلو» وقتله، وسبب ذلك أمور، منها شدة كراهية الأمراء له لسوء سيرته، فإنه كان يخلو بالسلطان، ويشير عليه بما يشتهيه، فما كان السلطان يخالفه فى شيء. لكن الأمراء اتفقوا على السلطان فى النهاية، وقاتلوه، ففر منهم، لكنهم أمسكوا به وذبحوه. وتسلطن الملك الناصر «السلطان حسن» صاحب المسجد الشهير بجوار القلعة، وفى أيامه فقط خرجت «اتفاق» من القلعة، وانقطعت رواتبها، وتزوجها الوزير «موفق الدين هبة الله بن السعيد إبراهيم»، وكان كاتبا، واختاره الملك «الصالح صالح» وزيرا، وقال عنه «ابن حجر العسقلاني»: «إن هذا الوزير رتب ل «اتفاق» سبعمائة ألف درهم فى السنة إلى أن مات عنها، وتقلَّبت بها الأحوال إلى أن ماتت.