سقطت المجتمعات العربية في بئر الإعلام غير المحترف في السنوات الأخيرة. تلك حقيقة يجب أن نقرها ونحن نحاول أن نصل إلي مقاربات واضحة أو تشخيص دقيق للحالة الراهنة التي يسودها صخب يفوق احتمال المواطن العربي الواقع فريسة ماكينات ومنصات إعلامية سياسية لم تكن أنظمة الحكم ولا الشعوب في العالم العربي جاهزة للتعامل معها خاصة في مرحلة ما بعد الثورات الشعبية، فأحالت ما راهن البعض عليه بأنه كان بمثابة دعوات شعبية لتصحيح السياسة في دول بعينها إلي فوضي عارمة. نعم، الإعلام ليس الطرف الوحيد المسئول عما وصلنا إليه من تمزق وتفتيت، وغياب الرؤية الواحدة لمشكلات متراكمة في تلك المجتمعات، ولكنه كان يمكن أن يكون ناضجا في خياراته وفي سياقاته، ومسئولا في تعامله مع الأحداث الدرامية التي تمر بها دول المنطقة، وما تهدد دولا فيها بالتقسيم إلي كيانات صغيرة ضعيفة، وهو خطر مازال قائما ولا يمكن استبعاده في الوضع الحالي. فلا يمكن ترميم الأوضاع بينما تتسع الفجوات يوما بعد يوم بين المجموعات السياسية الأيديولوجية والطوائف العرقية والمذاهب الدينية، التي تغلب مصالحها الضيقة علي مبادئ الوحدة التي جمعت مواطني الأقطار العربية علي مدي عقود، وأسهمت في إيجاد لٌحمة بين شعوب المنطقة في أيام نترحم عليها اليوم. السياسة إذن تعاني أزمات الانقسام، والإعلام يعاني أعراض السياسات المعتلة التي تحكم المشهد.. نخب السياسة لا تملك حلولا، ونخب الإعلام لا يمكنها تقريب الفجوات لأنها أسيرة السياسة المترددة الضعيفة. وفي تلك الحلقة المفرغة، لابد أن يكون هناك مخرج واضح من الحالة الإعلامية، وقد يكون التعويل علي رشد نخب صحفية وإعلامية ضربا من الخيال لكننا لن نقوي علي تصحيح مسار السياسة ما لم نصحح مسار المنابر الإعلامية أو منصات القصف الإعلامي التي تنهمر قذائفها ليل نهار فوق رءوسنا بلا تنظيم أو محاسبة. في منتصف الأسبوع الحالى، شهدت الجامعة العربية نقاشات موسعة حول الإعلام فى يوم الإعلام العربى وعلى هامش اجتماعات مجلس وزراء الإعلام العرب حاولت أن تقترب من مشكلاته ولكنها لم تلمس الحلول بشكل فعلى، نتيجة اتساع «الفتق» وحالة التوهان في العمل العربي المشترك التي خلفت حالة من الأسف علي الوضع الحالي دون أن نصل إلى إمكان تقديم رؤية أوسع وأشمل للمشهد الإعلامي لأسباب عديدة. ويمكن إجمال التحديات التي خرجنا بها من المناقشات علي مدي يومين في الآتي: تحدي غياب السياسة علي المستوي القومى، حيث لم يعد هناك تعريف يجمع العرب حول ماهية «الأمن القومي العربي»، فالقضايا المحلية حلت محل بعض الثوابت التي ترسخت لفترة زمنية طويلة، وفي مقدمتها التهديد الذي تمثله إسرائيل للأمن القومي والأرض العربية والمصير المشترك. وأيضا، النظرة إلي مطامع إيران تجاه دول الخليج العربي ورغبتها في فرض سطوتها وتهديد جيرانها عقب الثورة الإسلامية التي قدمت مشروعاً يبدو جامعا في مظهره ولكنه كان مشروع هيمنة في جوهره، يستخدم الدين الإسلامي بالطريقة نفسها التي تربت عليها جماعات الإسلام السياسي في المنطقة قرابة قرن من الزمن. وعلي المستوي الداخلي في دول عربية كثيرة، يقف المجتمع المدني مأزوما وعاجزا عن إيجاد طريق له يسهم به في المشاركة في تنمية حقيقية، دون أن يكون طرفا في الانقسام المجتمعي، وهي معضلة خطيرة في وقت تواجه المجتمعات تهديدات مرعبة في مقدمتها الإرهاب والمؤامرات والحرب علي الهوية، وأمة تواجه خطر وجود. ولا يقف الإعلام بعيدا عن أزمات المجتمع المدني فهو الحلقة التي تصل بين كل أطراف العملية السياسية وبين قوي المجتمع الفاعلة ولو كان العطب قد أصاب الجميع فالإعلام هنا يدفع الثمن تخبطا وتمزقا وغيابا للرؤية. غياب التشريعات الوطنية المنظمة، وعدم تفعيل مواثيق الشرف الصحفي أو الإعلامي أو حتي احترامها علي اعتبار أنها مجرد مواثيق غير ملزمة لأحد وتتوه وسط الضجيج الموجود والمنافسة المنفلتة، والأجندات المتضاربة والمدفوعة من جانب أطراف لا يعنيها سوي المصالح الخاصة علي حساب المجموع. تصنيف الإعلام ما بين إعلام وطني يعمل للصالح العام وإعلام يخدم مصالح فئات أو جماعات دون مضمون حقيقي لإعلام يخدم الأهداف التنموية، أو يضع أولويات البناء علي المستويين القومي والوطني علي رأس أولوياته. وهناك بالفعل تراجع في وظائف الإعلام الرئيسية وهي الإخبار والتعليم والترفيه، حيث إن الوظيفتين الأولي والثانية تعانيان من خلل واضح في المهنية والاحترافية، بينما الوظيفة الثالثة منفلتة ويغيب عنها العمق ويسودها السطحية الظاهرة. الإعلام العام لم يقم بواجباته المفترضة والإعلام الخاص يملأ بصخبه مساحات يغيب عنها الإعلام العام. الازدواجية والتعامل (من جانب وسائل الإعلام نفسها ونخب سياسية) مع قضايا سياسية مطروحة بمنطق إقصاء الآخر، ولا يختلف في الأمر مثقفون (أو أشباه مثقفين) عن شخصيات أقل وعيا أو دراية، فالكل أصابته اللوثة الإعلامية السائدة ولا يريد أن يسمع للرأي المخالف بعد أن سعت مجموعات بعينها إلي تأميم المناخ العام واحتكار الحديث باسم الثورات والتغيير، وهو ما خلق توترات وعملية إقصاء متتالية في المشهد الراهن، ولا يمكن التهوين من خطورة دخول الإعلام طرفا حقيقيا في تلك اللعبة الخطيرة التي لا تخدم أولويات الشعوب العربية في التنمية وتقوية الجبهات الداخلية لمواجهة المخاطر المتعاظمة. غياب تعريف محدد لحرية الرأي والتعبير في ظل عدم إقرار تشريعات ناضجة في كثير من البلدان العربية، وظهور نزعات تريد مناخا منفلتا حتي تنمو وتترعرع اتجاهات بعينها، في ظل فوضي إعلامية غير مسبوقة وظواهر لا يمكن أن نتباطأ في مواجهتها، ولعل الحالة المصرية من الأمثلة الصارخة علي غياب التنظيم عن سوق الإعلام، وعدم وجود هيئات تقوم بدور المنظم للممارسة المهنية وتفعيل مبادئ الثواب والعقاب. وبمعني آخر، عندما تغيب المرجعيات ووسائل المحاسبة يكون الانفلات في طرق التعبير سمة من سمات المشهد. ولا ينفصل عن التنظيم مسألة ضرورة الوصول إلي صيغ ناضجة عن حرية تداول المعلومات. غياب التنسيق بين وزارات وهيئات الإعلام وبين وزارات الثقافة والتعليم سواء في مصر والدول العربية، وهو ما يزيد من صعوبة وضع تصورات أو خطط لمنع ازدياد موجة التطرف أو مواجهة ما هو موجود من جماعات تجند الشباب بطرق متنوعة وعبر وسائل عديدة وأهمها اليوم وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر). ولو كانت الإرادة موجودة في السنوات الأخيرة لكان المشهد قد شهد تحولات مهمة في التصدي لخطر الموجة الإرهابية التي تضرب جنبات المنطقة العربية بلا رحمة. للأسف، الحكومات لم تواكب حركة الشعوب التي قادها الشعب المصري في ملحمة 30 يونيو، فالشعب خرج عن وعي كامل بأن خروجه يقي الأمة بأسرها من خطر طوفان الطغيان القادم، ولم يكن الإعلام وحده هو جهة التعبئة التي دفعت الناس للخروج ضد الجماعة الإرهابية، ولكنه الوعي الجماعي بتهديد حقيقي لقيم وثقافة ووحدة المجتمع هي التي حركتهم في يوم من أيام التاريخ التي لا تنسي. لم يواكب الإعلام حركة الشارع في تلك الأيام العظيمة، رغم وجود ومضات مشرقة في بعض الصحف والقنوات الفضائية، فكانت النتيجة هى ما نسميه اليوم إعلام «سداح مداح» لا يرقي لما نطمح إليه... وهو وصف مستعار من تسمية الكاتب الكبير الراحل الأستاذ أحمد بهاء الدين لسياسة الانفتاح في عهد الرئيس الراحل أنور السادات. في ظل كل الملابسات السابقة، يكون تمرير قوانين الإعلام الجديدة في الحالة المصرية مسألة لا تقبل التأخير كثيرا، لأن التنظيم لابد أن يسبق تحديد المسئوليات وتوقيع الجزاءات ومعاقبة المخطئين، والتنظيم هو الرهان الوحيد لعملية إيجاد التوازن ما بين الحرية والمسئولية، حيث يؤدي الخلل الحالي إلي إضرار بالمصالح الوطنية، وهناك أمثلة عديدة لفقدان الحس بالمصلحة الوطنية مثلما حدث في القصص الإخبارية والمقالات التي تناولت كارثة الطائرة المصرية التي هوت في مياه البحر المتوسط أخيرا. ففي الوقت الذي أظهرت صحف عربية من المحيط إلي الخليج نضجا في تغطية الحادث نجد من حاول توظيف الحادث سياسيا بشكل فج وغير مسئول في الداخل المصري دون وازع من ضمير لحجم الضرر الواقع علي بلد يواجه تحديات هائلة. وفي غياب التوازن بين الحرية والمسئولية، ظهرت مقالات وتقارير تصب غضبا غير مبرر علي شركتنا الوطنية وعلي الدولة المصرية وتتهكم بغباء علي الأداء الحكومي في عملية إثارة ونشر للفتنة، وتحريض وترويج لأكاذيب ترقي إلي درجة الاغتيال المعنوى، وفي كل ما سبق تتبني صحف وفضائيات وجهات نظر صحف أجنبية لا تخلو سطورها من الغرض في معالجة الحادث وتداعياته، ولها حسابات ترتبط بتوجهات بعينها، لا تنطلي علي كل من يتابع بعين فاحصة ما يجري في تلك الوسائل الإعلامية. هناك من يتاجر بعبارة «مقال ممنوع من النشر» دون أن يفكر في السياسة التحريرية التي تدفع صحيفة، أي صحيفة، إلي الامتناع عن نشر رأي بعينه، رغم أن تلك بدهيات في الصحافة العالمية عندما يخالف الكاتب توجهات الصحيفة. تكريم الأهرام فى الجامعة العربية مع احتفال صحيفة الأهرام بالعيد ال140 لصدورها. وهو الحدث الأهم في مشوار الصحافة العربية المعاصرة، كرمت الجامعة العربية يوم الأربعاء، أمس الأول، الجريدة العريقة عن مشوارها وتاريخها العريق وحملت كلمات التكريم عرفانا واعترافا بقيمة الأهرام التي لا تضاهيها منزلة صحيفة أخري في تاريخ الأمة الناطقة بالعربية فهى الصحيفة الأم في المنطقة العربية . فمازالت الأهرام منارة ساهرة علي اللغة والثقافة والتاريخ ومتانة العلاقات بين الشعوب العربية بكل تنوعاتها وأطيافها ومازالت الأهرام تحمل أملا في إعلاء قيم الوحدة والمصير المشترك، ويقظة عربية جديدة تتجاوز اخفاقات الحاضر. في حفل التكريم قلت إن نشأة الأهرام كانت عربية خالصة علي أرض مصر .. أسسها الأخوان اللبنانيان سليم وبشارة تقلا في مدينة الإسكندرية عام 1875 في توقيت كانت المنطقة تمر باضطراب وهجمة استعمارية كبيرة ولكنهما نجحا في وضع اللبنات الصلبة للصحافة العربية علي أرض مصر رغم كل الصعوبات، وكانت الأهرام نبراسا وعلماً تحول إلي قدوة عظيمة لكل من قام بتأسيس صحف في المنطقة العربية فيما بعد. وعلي صفحات الأهرام تمثلت قيم ومعاني الوحدة العربية والمشروع القومي العربي ويحمل أرشيف الصحيفة كنوزا عظيمة عن تلك الإسهامات الرائعة في تاريخنا الحديث. وفي الحوارات مع كبار مسئولي الجامعة والوزراء العرب... قلت: إن الأيام قد تبدلت والأنظمة تغيرت وحدود الدول تعدلت وبقيت الأهرام تؤدي رسالتها في أزمنة صعبة، وهي اليوم تمضي في طريقها محافظة علي قيمة التواصل العربي- العربي في توقيت عصيب علي تلك الأمة وتضع أيضا صفحاتها في خدمة القارئ العربي في كل مكان إيمانا منها أنها مازالت تقوم بدور جوهري في محاولة جمع شتات ما هو مشترك بين أبناء العروبة وهو في تقديري ما ينتظره القارئ العربي من تلك الصحيفة العريقة من الخليج إلي المحيط.. فنحن في أمس الحاجة اليوم أن نعلي من قيم التقارب وكل ما هو مشترك بين العرب.. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام