جاءت نتائج انتخابات الرئاسة علي غير ما كنت أتمني, لكن ما أبهجني حقا في مشهد الانتخابات أن المصريين قد أسقطوا فرية' أنهم غير جاهزين للديموقراطية' وفرية' أن الشعب لا يساند الثورة', رغم كل مؤامرات وأد الثورة وتشويهها والغدر بشبابها. وما كان يرضيني في إنتخابات الرئاسة هو نجاح مرشح يدافع عن' دولة المواطنة', دولة جميع المصريين, التي تحقق وتحمي جميع حقوقهم دون تمييز أو تهميش. وللأسف لم يكن بين المرشحين من يستوعب ويعلن باستقامة ووعي أن مسئوليته هي قيادة بناء' دولة المواطنة', ومن ثم كان اختياري العملي والمبدئي هو اختيار الأقرب لفهم هذه المهمة المركزية. وفي سياق تحليل نتائج وتوابع إنتخابات الرئاسة, أسجل أولا, أن إجراء إنتخابات تنافسية حقا وبحرية ونزاهة كان انتصارا لا ريب فيه لثورة 25 يناير, التي أسقطت مهانة التوريث وركود التمديد, وإنتزعت حق المصريين في إختيار الحاكم والنظام. وقد سجلت إخفاقات المجلس العسكري الأعلي, الذي لم يستوعب معني الثورة ولاحق شباب الثورة وشوه صورتهم بدلا من احتضانهم وتمكينهم من صناعة المستقبل, ورفض وضع الدستور أولا وراهن علي جماعة الإخوان. لكنني أشهد للمجلس الأعلي للقوات المسلحة برفضه إغراق الثورة في حمام دماء وحفاظه علي كيان الدولة ووفائه بوعد إجراء انتخابات حرة لنقل السلطة, دون إنكار تجاهل مثالب التوظيف السياسي للدين وتجاوز سقوف الإنفاق وشراء أصوات المهمشين ونواقص كشوف القيد في العملية الإنتخابية. وثانيا, أن ضعف إقبال المصريين علي التصويت في الانتخابات الرئاسية يعزي- كما رصدت تحقيقات الأهرام- إلي الحر الشديد الذي منع الناخبين من الذهاب للجان الانتخابية فترة طويلة من يومي الإنتخاب, والضعف الطبيعي لارتباط الناخبين بمرشح الرئاسة مقارنة بمرشح البرلمان, وعدم إعلان تفعيل الغرامة علي من لا يدلي بصوته, وصعوبة السفر للمقار الانتخابية عبر المحافظات, وانشغال الشباب بامتحانات نهاية العام.. إلخ. بيد أنه لوحظ عزوف الشباب عن التصويت بما يتناسب مع وزنهم النسبي, وإعتقاد البعض بأن أصواتهم لن تغير كثيرا من نتائج الإنتخابات, وزعم بعض الدعاة أنه لا أحد من المرشحين يرقي لأن يأخذ الصوت السلفي!! ولعل الأهم كان من بدا من أن معظم المصريين لم يجدوا في الثلاثة عشر مرشحا المتنافسين مرشحهم الحقيقي!! وثالثا, أن برامج وشعارات مرشحي الرئاسة لم تكن ملهمة. ومن ذلك, مثلا, خيبة دعوة الاقتصاد الحر وإن تحت العمامة' الإسلامية', وتجاهل حتمية تصنيع مصر في مشروع النهضة, إضافة الي التوجه الي دولة الفقهاء والخلافة في خطاب جماعة الإخوان المسلمين و'المرشح الرباني' محمد مرسي, وبدء حملته بالشعار المبهم الاسلام هو الحل, وإن استبدل بشعار' نهضة مصرية.. مرجعية اسلامية'; بينما تخلط هذه المرجعية بين المباديء والأحكام, وتستدعي دولة الخلافة المناقضة للمدنية والحداثة, وتدعو الي جماعة أهل الحل والعقد التي تعلو علي مرجعية الدستور والمؤسسات المنتخبة!! وكان عدم استيعاب معني الثورة, ونزعة إحياء دولة مبارك, إضافة الي الشعار الغامض لحملته: أفعال لا أقوال, في خطاب وبرنامج أحمد شفيق, جعلته يبدو مرشح الجمهورية الأولي الآفلة!! ثم المراوحة بين خطاب المواطنة والتوجه السلفي في خطاب وبرنامج المرشح المنشق أبو الفتوح, وشعار حملته' رئيسا لمصر'; الخالي من رسالة ملهمة للناخبين!! ودعوة اللامركزية في لحظة فارقة تتطلب سلطة رئاسية تنفيذية قوية لمواجهة تحديات إعادة بناء مصر- في خطاب وبرنامج عمرو موسي, الذي افتقد الهدف الموجه رغم شعار حملة' إحنا أد التحدي'!! وكان طرح مسألة تصنيع مصر وقضية العدالة الإجتماعية وقيم دولة المواطنة, هو الأوضح في برنامج وخطاب المرشح الناصري حمدين صباحي, مع جاذبية الشعار الموفق لحملته' واحد مننا'. ورابعا, أن النتائج شبه النهائية لانتخابات الرئاسة جاءت تعبيرا عن توازن القوي الراهن بين قوي الاسلام السياسي وقوي النظام السابق وقوي الثورة المستمرة, من جهة, وتفكك صفوف وتنافس مرشحي وتفتيت أصوات هذه القوي جميعها, من جهة ثانية, والوعي الجماهيري السائد الذي بقي في غالبيته بعيدا عن استكمال مهام الثورة واستهداف دولة المواطنة, من جهة ثالثة. ولا جدال أن نتائج الانتخابات كانت ستتغير في حالة التحول من التنافس الي التحالف, أو من الصراع الي الوحدة, بين حمدين وأبو الفتوح, المصنفين مرشحي الثورة وشبابها, وبين محمد مرسي وعبد المنعم أبو الفتوح المصنفين مرشحي الإسلام السياسي رغم إزدواجية' قبعة الأخير', وبين أحمد شفيق وعمرو موسي, المصنفين فلول النظام السابق وإن كان التصنيف ألصق بالأول. وخامسا, فان الدكتور محمد مرسي, وإن فاز بالمركز الأول وفق النتائج الأولية, جاءت نسبة ما حصل عليه من أصوات أدني بكثير مما نالته جماعة الإخوان المسلمين في إنتخابات البرلمان, وهو ما جسد يقينا هزيمة جزئية للإخوان نتيجة تآكل مصداقيتهم وتراجع شعبيتهم. وبوجه خاص فان تناقض الأصل والصورة, أي إختطاف الثورة رغم مزاعم إستكمال الثورة كانت عاملا حاسما في تواضع نسبة ما ناله من أصوات. والأمر أن جماعة الإخوان المسلمين لم ولا ولن تستهدف حقا إستكمال الثورة, الذي أراه في بناء' دولة المواطنة'; باعتبارها البوصلة المحددة للتوجه نحو تحقيق شعارات وغايات الثورة. أضف الي هذا إخفاقات الأداء السياسي للإخوان منذ توهموا أن الثورة قد وصلت الي محطتها الأخيرة بعد إنتصارهم في إستفتاء التعديلات والأهم في إنتخابات البرلمان, وهي إخفاقات سجلها من لا يحسبون بحال خصوما للإخوان, مثل الأستاذ فهمي هويدي في مقاله' لا يتوبون ولا يتعلمون', والمستشار طارق البشري في مقاله عن' أخطاء الإخوان في مائة يوم من عمر مجلس الشعب'. وسادسا, أن الفريق أحمد شفيق, بمفاجأة صعوده وفوزه بالمركز الثاني, قد أثار هواجس ومخاوف بشأن سعيه لإحياء النظام السابق ووأد الثورة وتهديد توقعات التغيير الحتمي, وأنذر بعدم تحقيق الاستقرار, الذي لن يكون بدون تغيير جذري شامل ينقل مصر من نظام فاشل وفاسد الي نظام جديد أكفأ وأنزه. وقد فجر ترشحه وإنتخابه معارضة من عملوا علي الإطاحة به من رئاسة مجلس الوزراء, وانفجروا غاضبين من احتمال فوزه بالرئاسة, وتطلعوا لإنهاء استمرار العسكريين بمقعد الرئاسة. وكان حصان الإنتخابات الأسود بفوزه بالمركز الثالث هو حمدين صباحي, وانتزاعه للمركز الأول في القاهرة والاسكندرية وبورسعيد وكفر الشيخ والبحر الأحمر, والمركز الثاني في السويس والاسماعيلية والجيزة والغربية والدقهلية, أي عاصمتي مصر ومراكز الثورة المصرية والمدن الصناعية وحيث ارتفاع مستوي التعليم علي حساب الإخوان والسلفيين والفلول. وأخيرا, أن الدكتور أبو الفتوح, الذي جاء رابعا, فقد اتسمت مواقفه بالشجاعة في نقد المجلس العسكري ونبذ نهج السمع والطاعة وإعلائه للوطنية المصرية. لكن إزدواجية خطابه كسبا للفرقاء من الثوريين والسلفيين, ومرجعية فكره الإخواني المناقض لدولة المواطنة. أضعف مصداقيته وأفقده الإستقامة. ولم يكن عمرو موسي, خامس الفرسان, تكرارا بحال لقصة قيادة سعد زغلول لثورة 1919, الذي تحول عن مواقفه الرجعية الي مواقف ثورية, ولم يصمد زعمه معارضة لنظام مبارك ومشاركته في الثورة, فكانت مفاجأة العيار الثقيل بخروجه من سباق الرئاسة مبكرا, وخاصة بمزاحمة الفريق له علي ذات الأصوات. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم