فيما أعلن رسميا انتهاء 13 عاما من حكم اليسار فى البرازيل، يتوجب تجاوز محنة ديلما روسيف إلى تقدير أحوال أزمة اليسار فى أمريكا اللاتينية إجمالا، وذلك لما كان من أهمية التجربة التاريخية لليسار اللاتينى فى إتمام عملية الانتقال السياسى الحساس بدوله، من مرحلة ما بعد الحكم الاستعمارى أو العسكرى فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إلى تدشين مرحلة التناوب الديمقراطى على الحكم فى التسعينيات، بفضل تنفيذ برامج سياسية ذات أسس شعبية. ويلاحظ حاليا ظهور تأثير ما يعرف ب"عامل الدومينو"، عبر اضطراب أوضاع أنظمة اليسار اللاتينى بشكل شبه متزامن ومتوالي، واتجاه أغلبها إلى السقوط، مما يستدعى تقديرا لأسباب هذه الأزمة، وما إذا كانت نهائية أم مؤقتة فى تاريخ اليسار اللاتيني؟ مبدئيا، وبضمير مستريح، يمكن الجدل بأن تجربة اليسار اللاتينى قد أتمت دورتها كاملة، ويقصد بذلك أنها حققت صعودا إلى سدة الحكم وفرصة كاملة لطرح برنامجها السياسى القائم غالبا على مكافحة الفساد، واتباع برامج اقتصادية أكثر وسطية وتوافقا مع مقتضيات الأسواق العالمية بما حقق معدلات نمو مرتفعة، وحافظ فى الوقت ذاته على البعد الإنسانى للعملية الاقتصادية، مع تحقيق العدالة فى توزيع العائد الاقتصادي، خاصة فى إطار البرامج الاجتماعية التى نجحت فى تراجع معدلات الفقر، وحافظت لليسار على شعبيته. ثم بلغت هذه التجربة مرحلة "ترسيخ المكانة" بإعادة انتخاب قيادتها لفترة ولاية ثانية، ثم تسليم الدفة إلى الجيل الثانى من الخلفاء، فى تأكيد لاستمرارية القيادة اليسارية للدول اللاتينية. اكتمال دورة التجربة جاء مع بدء مرحلة "الحفاظ على المكانة"، والمقصود هنا ليس بالضرورة البقاء فى سدة الحكم، ولكن تجديد السياسات وتطوير القدرة على إدارة الأزمات، بحيث أنه حتى وإن قضت عملية التناوب الديمقراطى بخروج من الحكم، يكون خروجا يعقبه عودة. والمقلق فى حالة اليسار اللاتينى أن خروج أغلب نماذجه جاء وسط حالة سخط شديد، عقب توالى أدلة ارتكاب قياداته ذات السقطات التقليدية، وتحديدا فيما يتعلق بممارسات الفساد. ويمكن رصد عناصر رئيسية أدت إلى تعثر اليسار اللاتينى وتسببت فى أزمته، فيلاحظ أولا، العنصر الخارجى أو تأثير تحولات النظام الاقتصادى العالمي، ويقصد هنا تحديدا تراجع أداء الاقتصاد الصينى وما أحدثه من تراجع فى معدلات طلب بكين على الصادرات اللاتينية، وترافق ذلك مع انهيار أسعار البترول عالميا. يتوجب التنبيه هنا أنه ما كان لذلك العنصر منفردا هذا التأثير الهائل على مصائر أنظمة اليسار إلا بالتفاعل مع عناصر أصيلة فى هذه الأنظمة. يتمثل ثانى العناصر فى "وهن الدولة" وفشل سياساتها الإدارية على المدى البعيد، فيلاحظ فى حالة فنزويلا مثلا أن تراجع عائدات البترول جاء ليكشف وهن البنية الاقتصادية للدولة والتى قامت لعقود على معادلة ضعيفة وإن كانت مجدية حتى عهد قريب، ومفادها استقبال العائدات البترولية وتوزيعها على ثلاثة قطاعات رئيسية هى : تمويل البرامج الاجتماعية التى نجحت بالفعل فى خروج الملايين فى الدول اللاتينية من الفقر، وتعضيد نظام الدعم للمنتجات الرئيسية وضمان توافر النقد الأجنبى اللازم لاستمرار تدفق الموارد من الخارج، وتوجيه قسم من العائدات، بالطبع، إلى تعضيد الدولة ذاتها بدعم المؤسسة الأمنية والعسكرية. وهنا يلاحظ أن مجالات إنفاق العائدات البترولية لم تشمل خطة واضحة لإيجاد وتطوير قطاعات اقتصادية بديلة يمكن الاعتماد عليها لدفع النمو محليا وتوفير عائدات لتعويض التمويل المفقود للبرامج الاجتماعية ولإتاحة السلع الأساسية. وتجاوزت سقطة التجربة فى فنزويلا ذلك إلى حد عدم الإنفاق على تطوير البنية التحتية للقطاع البترولي، مما أثر على معدلات توافد الاستثمارات الخارجية إلى هذا القطاع. وزاد مأزق الرئيس نيكولاس مادورو بالتزامه يسارا متطرفا رافضا لفكرة الاندماج فى النظام الاقتصادى العالمى أو اللجوء إلى مؤسساته المالية سعيا وراء الدعم والإرشاد. وقد أثار "وهن الدولة"، وعجزها عن إتمام "العقد الاجتماعي" مع الفئات التى تدعمها، انتقادات واسعة وجدلا حول ما إذا كان إعلان إفلاس فنزويلا سيسبق سقوط خليفة هوجو شافيز أو العكس. وتبرز الأرجنتين ضمن أمثلة سوء الإدارة، حيث تسبب التدخل المبالغ فيه من جانب الدولة فيما يخص إدارة المنظومة الاقتصادية فى زيادة معدلات الفساد وتعاظم نفوذ النخبة، مما أدى إلى انهيار النظام الاقتصادى فى النهاية. وعمدت الدولة إلى تعقيد إجراءات عمل القطاع الخاص، وهو ما عطل فاعلا أساسيا لدفع الاقتصاد، وقابلت ذلك بزيادة مخصصات الإنفاق، مما أدخلها فى واحدة من أكبر حالات عجز الموازنة طوال عقود. يتمثل ثالث العناصر فى ارتكاب "خطيئة الخصم"، والمقصود هنا تورط أقطاب اليسار فى ذات أخطاء الأنظمة التى طالما هاجمتها، والأهم المماطلة فى إصلاح هذه الأخطاء. فعلى الرغم من توالى وقائع عدم الكفاءة بالنسبة للنموذج البرازيلي، بدءا من تعثر الأداء الاقتصادي، حيث تراجع النمو بنسبة حوالى 4% خلال عام 2015، إلى الاعتراضات الشعبية إزاء حجم الإنفاق على مشروعات استضافة دورة الألعاب الأوليمبية، مقابل استمرار تردى أداء القطاع الخدمات الأساسية، وفشل حكومة روسيف فى احتواء فيروس "زيكا"، قدمت روسيف وحكومتها أسبابا جديدة للسخط، فلم تتعامل بالذكاء المناسب مع فضائح تورط مسئولى حزب العمال والنخبة الحاكمة فى وقيعة الفساد الأشهر فى شركة البترول "بتروبراس"، حتى تم الكشف عن تلاعبها بميزانية الدولة قبيل خوض انتخابات تجديد ولايتها عام 2014. وزادت واقعة لولا دا سيلفا من أزمة الحكومة واليسار هناك، فقذفه باتهامات فساد، يرجح أنها سياسية فى المقام الأول، ومقابلة اليسار ذلك بالتحصين دون التفنيد وكشف كذب الإدعاءات، نال أكثر من مصداقية اليسار. وكان يفترض أن يصب اليسار البرازيل اهتمامه على تدشين حملة لمراجعة داخل الحكومة والحزب بغرض الإصلاح وإعادة التوجيه، مع حملة متزامنة لمخاطبة الرأى العام وتوضيح أبعاد الصورة أمامه، لكن الرؤية كانت غائبة والأحداث بالغة التسارع. ورابع عناصر الأزمة وآخرها تكمن فى الصراع الحزبى - الطبقى الدائر حول الحكم فى هذه الدول. فيلاحظ أنه وعلى الرغم من مراجعة بعض حلفاء اليسار على المستوى الشعبى لمواقفهم، فإن المعارضة، وتحديدا اليمينى منها، برزت فى الآونة الأخيرة لاستغلال هفوات اليسار من جانب، وسخط القوة الانتخابية من جانب آخر، لضمان تحويل هذا السخط إلى قوة إقالة، ثم قوة اقتراع عقابى ضد اليسار ولصالح اليمين. .. إلى أين تتجه أمريكا اللاتينية إذن؟