قبل الحديث عما آراه من ملاحظات علي طريقة إدارة مجلس النقابة للأزمة الراهنة، أرجو أن يسمح لي القارئ الكريم، أو زميل المهنة العزيز، بتأكيد نقطتين أساسيتين. الأولي، أنه ليس هناك مجتمع بدون أزمات، بأشكال وبأنماط وبدرجات مختلفة، خاصة المجتمعات التي تمر بلحظات ومراحل تحول وانتقال عميق وواسع النطاق، وهو ما ينطبق بتأكيد حالة المجتمع المصري حاليا، والذي تطال عملية الانتقال فيه كافة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك علي خلفية خروجه من ثورتين متتاليتين، مر علي أولاهما ما يزيد قليلا علي خمس سنوات، ولم يفصل بينهما أكثر من عامين ونصف العام، وذلك في إشارة واضحة إلي عمق التحديات والتحولات الجذرية التي يمر به المجتمع المصري. ولا تنسحب حالة الانتقال تلك علي مؤسسات الدولة فقط، لكنها تنسحب أيضا علي مؤسسات المجتمع المدني، وعلي مختلف التيارات السياسية القائمة، سواء تلك التي تشكل امتدادا لتيارات سياسية قديمة، أو تلك التي تمثل تيارات جديدة ارتبطت في نشأتها وظهورها بمرحلة ما بعد الثورة. ولعل ما يؤكد استمرار عملية الانتقال تلك هو حزمة التشريعات والقوانين الجاري مراجعتها وإصدارها من جانب المؤسسة التشريعية. إذ يندر أن يكون هناك قطاع أو مؤسسة بمعزل عن التأثر بهذه التشريعات. النقطة الأساسية الثانية، أنه يمكن تفهم حالة الغضب التي انتابت قطاع من الزملاء الصحفيين عندما قرر عدد من الضباط من وزارة الداخلية دخول نقابة الصحفيين للقبض علي صحفي ومتدرب بأحد المواقع الإلكترونية. وفي تقديري أن الباعث الأهم الذي يمكن أن يؤسس لهذا الغضب لا يتعلق بما تم الترويج له بإصرار شديد من جانب مجلس النقابة لواقعة دخول الضباط للنقابة علي أنها خرق لنص المادة 70 من قانون النقابة، بقدر ما يجب أن يتأسس في تقديري علي أنه يمثل السابقة الأولي في تاريخ النقابة، فالعرف الذي ساد في هذا الشأن يمثل المصدر الأقوي لغضب مشروع من جانب الجماعة الصحفية. إن وضع هاتين الملاحظتين في الاعتبار عقب بدء الأزمة كان يعني، أولا، ضرورة إدراك مجلس النقابة للمناخ العام الذي وقعت فيه تلك الأزمة، وما كان يجب أن يمثله ذلك من ضوابط في عملية التصعيد السريع. كما كانت توجب، ثانيا، أهمية انفتاح المجلس علي التكييف القانوني السليم لتلك الواقعة. واقع الأمر، إن عبارة «تفتيش النقابة» بالواردة بنص المادة 70 يمكن أن تنصرف إلي حالات الاشتباه في وجود مخالفة ما للقانون أو الدستور أو حتي وجود خطر ما قد يهدد النقابة ذاتها، وهو أمر يختلف بالتأكيد عن حالة وجود جريمة محددة - من وجهة نظر النصوص القانونية وليس من وجهة النظر السياسية- الأمر الذي يمكن أن يؤسس لتكييف قانوني مختلف لواقعة دخول الضباط للنقابة عن ذلك التكييف الذي تم الترويج له من اللحظة الأولي لوقوع الأزمة. وهكذا، ربما كان من الأنسب أن يميز القانون بين «التفتيش والقبض»، وربما يفسر غياب هذا التمييز عن المشرع أنه لم يكن من المتصور أن تقوم النقابة بتقديم الملاذ للمخالفين للقانون أو الملاذ لغير أعضائها القانونيين. كما يمكن تفسير عدم قدرة مجلس النقابة علي هذا التمييز بين الحالتين إلي عدم وجود سابقة مماثلة في ضوء العرف الذي تواتر بشأن عدم دخول ضباط للنقابة من قبل. لكن الأمر لا يتعلق فقط بتفسير لنص مادة قانونية، ولكنه يتعلق بقضية أكبر وهي الاستعداد المسبق لدي بعض التيارات السياسية للخلط بين السياسة والقانون، وعدم وضع خطوط فاصلة بين ما هو سياسي وما هو قانوني، الأمر الذي يؤدي في الكثير من الحالات إلي تسييس يجب ألا أن يسيس. كما لا ينفصل أيضا عن حالة الثورة الدائمة أو النضال الدائم التي مازال يحرص عليها قطاع داخل المجتمع، ولم يدرك بعد أن الثورات هي حالات استثنائية في حياة أي مجتمع، وأنه ما أن تضع الثورة أوزارها فإن يجب الانتقال بإدارة الصراع من الشارع إلي عملية المساومات والمفاوضات السياسية الجماعية political bargainng، وهي مسألة تختلف تماما في طبيعتها وأهدافها وأدواتها عن حالة النضال بالثورة، والانتقال من العمل خارج الدستور والقانون إلي الالتزام الصارم بالدستور والقانون. في مثل هذه الحالات يضيع التمييز بين العمل النقابي والعمل السياسي، ويضيع التمييز بين الجماعة المهنية والتيار السياسيةإلخ من أوجه الخلط المختلفة. لقد مثلت طريقة إدارة مجلس النقابة للأزمة الراهنة تجسيدا واضحا لجملة الظواهر السياسية السابقة، وهو ما أوقع المجلس في جملة موازية من الأخطاء. أول تلك الأخطاء هو صياغة إدارة الأزمة باعتبارها مباراة صفرية Zero sum game بين النقابة والدولة، أكثر منها مباراة الكاسب- الكاسب win-win game، وهي صياغة خاطئة من أكثر من زاوية. الأولي، أن نمط إدارة الصراعات بمنطق المباراة الصفرية وإن كان جائزا في حالات محددة مثل حالات الثورة، أو المواجهات واسعة النطاق بين المجتمع والنخبة الحاكمة، إلا أنه ليس هو المنطق الأنسب في حالة إدارة صراع ما بين نقابة والدولة، فليس من مصلحة نقابة الصحفيين كسر هيبة الدولة المصرية، بل إنه لا يستقيم وضع النقابة دون وجود دولة قوية فاعلة تمتلك القدرة علي إنفاذ القانون. أضف إلي ذلك فإن العلاقة بين النقابة والدولة هي تاريخيا علاقة وظيفية، وعلاقة اعتماد متبادل؛ فالنقابة تمثل في النهاية جماعة مصلحة مهنية لا تمتلك ترف الصدام مع الدولة، خاصة في ظل عدم قدرة النقابة- حتي الآن- علي تطوير موارد ذاتية تستطيع من خلالها تمويل تكاليف هذا الصراع لفترات طويلة أو تحويل العلاقة مع الدولة إلي نمط العلاقات الصراعية، الأمر الذي يعني في التحليل الأخير انتقال تلك التكاليف حتما إلي الفرد (الصحفي). ولا يمثل ذلك دعوة لخضوع النقابة للدولة، بقدر ما يعني ضرورة فهم طبيعة العلاقة بين الجانبين، وخطورة إدارة أي خلاف مع الدولة، أو أي من مؤسساتها، علي أنه مباراة صفرية. بل إن الدولة ذاتها لا توجد لديها مصلحة في بناء علاقة تبعية بينها وبين النقابة، بمعنى أنها لا تسعى أن تكون النقابة تابعة لها، فوجود نقابة قوية يمثل أحد المداخل المهمة لعمليات الضبط التي يمكن أن تمارسها النقابة داخل الجماعة الصحفية، والضبط المقصود هنا ليس بالطبع «الضبط» بالمعني القضائي، ولكن بمعني السلوكي والأخلاقي، من خلال وضع الممعايير المهنية والأخلاقية التي تحدد ما هو مهني وما هو غير مهني، باستخدام مختلف الأدوات النقابية بدءا من الوقوف علي تطبيق ميثاق الشرف الصحفي وانتهاء بتطبيق القانون، ومرورا بتطوير القدرات المهنية لأعضاء الجماعة الصحفية. ولاشك أن وظيفة الضبط تلك هي وظيفة لصيقة بالدور المهني للنقابة وليس بدورها السياسي. وكان المظهر الأوضح لإدارة الأزمة كمباراة صفرية أيضا هو نقلها مباشرة من مواجهة مع وزارة الداخلية لتصبح مواجهة مع أعلي مستويات السلطة في مصر، ممثلة في رئيس الدولة ومطالبته بالاعتذار الواضح والصريح! رغم أنه لم يكن طرفا في هذه الأزمة، وكان لا يجب استحضاره في المشهد والحفاظ علي مكانته كحكم أخير بين السلطات باعتبار الصحافة هي السلطة الرابعة. بل وصل الأمر إلي صياغة الأزمة وكأنها مباراة صفرية مع المختلفين مع مجلس النقابة، من خلال التلويح بتوقيع العقوبات علي المختلفين مع المجلس في طريقة إدارته لهذه الأزمة رغم ما يجمع الجميع من عدم رضا عن سابقة دخول ضباط للنقابة. الخطأ الثاني الأبرز الذي وقع فيه مجلس النقابة هو عملية التسييس الشديدة للأزمة. وكما سبق القول، فإن عملية التسييس تلك هي نتيجة طبيعية للاستعداد المسبق لهذا التوجه لدي تيارات سياسية معينة، فضلا عن غياب التمييز بين السياسي والقانوني. وقد كانت عملية التسييس واضحة في حالة التعبئة المكثفة والمتسارعة التي مارسها المجلس ليس داخل الجماعة الصحفية، فهذا أمر مشروع في حالة وقوع ما يعتبره المجلس تهديدا لمصلحة الجماعة الصحفية، ولكنه اتجه إلي ممارسة نوع من الاستنفار بدءا من استنفار الجماعات المهنية الأخري واستحضارها في عملية المواجهة، ومرورا بدعوة المجلس في بيانه الصادر في الثاني من مايو جميع المؤسسات المعنية بحرية الصحافة والحريات المدنية في مصر والوطن العربي والعالم، لاعتبار هذا الحدث الجلل هو العنوان الرئيسي للبيانات الصادرة عنها في مناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة وهو ما أدي إلي توسيع نطاق الأزمة بشكل لم تعد تقتصر معه علي الجماعة الصحفية المصرية فقط في مواجهة وزارة الداخلية، بل باتت أقرب إلي مواجهة واسعة النطاق، وأصبحت قوي وتيارات سياسية، هي في عداء أصيل مع الدولة المصرية والمصلحة الوطنية، جزءا أصيلا من مشهد الأزمة وأداة في إدارته، فضلا عن محاولات قوي دولية لازالت في حالة عدم ارتياح بشأن التوجهات المصرية الراهنة ونظام ما بعد يونيو، ركوب الأزمة واستغلالها. ولا يقلل من خطورة هذا التوجه ما أعرب عنه المجلس لاحقا من رفضه التدخل الدولي في الأزمة، أو أنه لن يسمح لأي جماعة أو تيار باستخدام الأزمة لخدمة أهداف سياسية أو ممارسة العمل السياسي من داخل النقابة ذلك أن عملية الاستغلال والتوظيف السياسي كانت قد تمت بالفعل، فضلا عن أن مثل هذه التيارات والقوي لا تعبأ كثيرا بمثل هذه التصريحات أو المطالبات. لقد كان من الواجب أن يدرك المجلس أن هذه القوي لا علاقة لها بحرية الصحافة، أو الحريات المدنية، أو الديمقراطية، أو حقوق الإنسان، علي النحو الذي كشفت عنه تجربة حكم الإسلاميين في مصر. كما كان يجب أن يدرك المجلس أيضا أن القوي الدولية لا مصلحة حقيقية لديها في تحقيق المصالح الوطنية للدول الناشئة، أو حتي بناء ديمقراطيات في هذه الدول علي نحو ما تدعي، وذلك علي النحو الذي كشفت عنه مشروعاتها في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، والتي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنها تسعي بشكل واضح إلي تفكيك دول المنطقة تحت شعارات واهمة. كذلك كانت عملية التسييس واضحة في غياب أي توجه لدي المجلس في الانفتاح علي تفسيرات قانونية مختلفة لنص المادة 70. إن هذه الأخطاء تضع الجماعة الصحفية أمام مسئولية كبيرة لإعادة النظر في طريقة إدارة المجلس لهذه الأزمة، بل وتضعها أمام مسئولية كبيرة للحفاظ علي طبيعة هذه الجماعة باعتبارها جماعة مهنية بالأساس تسعي لحماية مهنتها، والاستقلال السياسي لنقابتها ليس فقط في مواجهة الدولة، ولكن في مواجهة التيارات السياسية وحالة التعددية السياسية التي تتوزع عليها الجماعة الصحفية ذاتها. لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات