يظهر الحديث بصورة متكررة عن التعليم الفني بل وأهمية ربطه باحتياجات سوق العمل وكأننا لا نزال في عصر الصناعة الذى انتهى في المجتمعات التي نشأ فيها و أخذ في التحول منذ بداية سبعينيات القرن الماضي لتبدأ إرهاصات مجتمع المعرفة بكل ما جاء به من تغيرات علمية وتكنولوجية كان لها متطلبات مهنية جديدة. وهنا يمكن التوقف إمام تاريخ التعليم الحديث في مصر مطلع القرن التاسع عشر فربما يلقى الأضواء على خطورة قصور الهدف من التعليم حين ربطة بسوق العمل .فمن المشهور أن محمد على قام بالانشقاق على نظام التعليم التقليدي السائد والخروج عليه واستحدث التعليم على النظام الغربي من اجل تكوين جيش قوى مستبعدا أي تجديد أو تطوير للتعليم الديني القائم حينئذ في مصر واستمرت الثنائية منذ ذلك الحين بين التعليم الحديث والتعليم الديني دون ان يلتقيا .و تولت اتفاقيات لندن الأولى عام 1840 والثانية عام 1842 الإجهاز على طموحات الحاكم بتحديد إعداد الجيش والأسطول وأنهت بهذه الصورة أيضا على احتياجات مصر من التعليم الحديث العسكري والصناعات الناشئة من أجله وما إن جاء عام 1948 إلا وكانت المدارس العسكرية العليا وغيرها قد أغلقت ولم يبق إلا المدرسة المفروزة... انتهى التعليم الحديث حين انتهت حاجة الدولة إليه ولم يبق إلا التعليم الديني السائد في الأزهر الشريف والمساجد الكبرى والكتاتيب والذى تركه الحاكم بعيدا عن التطوير والتجديد.هذا هو درس التاريخ حيث إن ربط التعليم باحتياجات سوق العمل المحددة هدف غير مأمون. والتعليم الفني في مصر بصورته الراهنة يرجع انتعاشه أساسا إلى ستينيات القرن الماضي حيث كان اتجاه الدولة إلى سياسة التصنيع والتوسع في القطاع العام. ومع هذا فالتعليم الثانوي الفني الذى تم الاهتمام به لم يكن الإقبال عليه أو الإعجاب به كبيرا وخاصة من الفئات القادرة، ذلك ان التعليم الفني كان مغلق النهاية عكس التعليم الثانوي العام مفتوح النهاية أي يؤدى بخريجه إلى الجامعة والتي لا يزال بريق الحصول على درجتها العلمية يجتذب أعدادا كبيرة حتى انه يمكن إرجاع الاهتمام بالدروس الخصوصية إلى لجوء الآباء إليها كي يحصل أولادهم على مجموع الدرجات الذى يؤهل للكلية ذات السمعة الاجتماعية والتي يرغبونها خاصة وان إعداد الأماكن المتاحة في الجامعات والكليات هذه محدودة و إعداد الشباب الراغب غير محدودة وبالتالي لعب قانون العرض و الطلب دورا حاسما فكان للدرجة ونصف الدرجة أحيانا أثره مما أدى لتزايد الضغط من اجل الدرجات وبالتالي الدروس الخصوصية. وتتفاقم الظاهرة حتى تكاد تهدد نظام التعليم في مصر وتتزايد أعداد الجامعات ولكن لاتزال غير كافية حيث القبول بالجامعات يعتمد على قانون العرض والطلب مهما كان الهجوم المغلوط على مكتب التنسيق وما أدى إليه عدم مراجعة نظامه بصورة أكاديمية. ولعل ربط التعليم باحتياجات سوق العمل كقضية في حد ذاتها لم تراجع ولم يتم التفكير بشأنها مليا رغم أنها قضية حق لا تنتهى في الحقيقة الا إلى باطل. ولتفسير هذا يمكن القول بان المقارنة بألمانيا على سبيل المثال ونجاح التعليم الفني فيها يتغافل عن اختلاف مجتمع الصناعة في ألمانيا والظروف التاريخية التي نشأ فيها عن المجتمع المصري وظروفه.هذا بالإضافة إلى تدنى مستوى التعليم الفني وارتفاع تكلفته مقارنة بالثانوي العام. والتعليم الفني المقدم في مصر بصورته المتدنية يكاد ان يكون مرفوضا اجتماعيا ومن أصحاب الأعمال. أما التعليم الثانوي العام بإتاحته الفرصة للالتحاق بالجامعة فهو اجتماعيا مرغوب وبالنسبة لإتاحته فرصة عمل فهو أكثر إتاحة لفرص مقبولة اجتماعيا حتى لو كانت بمرتب اقل.المستقبل لا يحمل في طياته فرص عمل متدنية لأيدي عاملة مشكوك في مستواها، وكذلك فالتغيرات التكنولوجية السريعة أدت إلى تراجع الطلب على هذه النوعية، ولذا فالمطلوب متعلم له مواصفات أخرى قادر على أداء الخدمات الإنسانية والمهنية، وتتطلب أيضا تعلما مدى الحياة والتعلم الجيد والمستمر ضرورة من اجل المواطنة مع التدريب المتجدد من اجل العمل المتغير. ولابد من طرح السؤال ما المهارات المطلوبة لسوق العمل؟وكيف تقدم للجميع؟ لمزيد من مقالات د. نادية جمال الدين