قبل دخول القرن الحادي و العشرين بعامين فقط كانت شركة كوداك المعروفةباحتكارها مجالا واسعا في اعمال التصوير تًشغل 170 الف عامل وعاملة في مصانعها ، وكانت تبيع 85% من كل ورق الطباعة الخاصة بالصور في العالم ،مع مرور سنوات قليلة نوع الشركة الاقتصادي ذالك كله تبخر في الهواء وامثالها ، و أفلست الشركة والشركات التي كانت تزودها بالمادة الخام ، ولم يعد العالم يحتاج الى ورق لطباعة الصور عليها ؟ بل لم يعد العالم يحتاج الى آلات كاميرا تقليدية، لقد حلت التقنية الجديدة بثورتها بدلا من الكثير من الشركات التقليدية، واصبح جهاز التليفون الذكي، من كل الانواع ،محل كل تلك العملية المطولة في التصوير . هل يصدق أحد اليوم بسهولة أن كل مواقع التواصل الاجتماعي التي نعرف عمرها بالكاد عشر سنين او اكثر قليلا فقط . قبل ثلاثة عقود من الزمن كان الانتاج البريطاني يعتمد على الصناعة ، اليوم 80 % من الاقتصاد البريطاني هو إقتصاد خدمات،في قلبه (إقتصاد المعرفة) و قبل سبعين عاما او اكثر كانت الامبراطورية البريطانية تنوح على فقدها للقارة الهندية بسبب الخسارة الاقتصادية التي توقعت ان تحل بها ، اليوم التبادل الاقتصادي بين الهندوبريطانيا يفوق ثلاث مرات في المكسب للشركات البريطانية عنها عندما غادرت بريطانيا مستعمرتها الهندية، ذلك بسبب التقنية . في المانفسنو الانتخابي للرئيس الامريكي باراك اوباما في عام 2007 وعد الناخبين بالتخلص من استيراد النفط الخارجي للصناعة و الاعمال الامريكية في خلال عشر سنوات، فعلها في خلال ثماني سنوات فقط، مرة اخرى بسب تقدم التقنية ! قبل سنوات قليلة كان المواطن ينتظر الاخبار من الراديو او التليفزيون، وتمر ساعات وفي بعض الاوقات ايام قبل ان يستمع الى خبر مهم ينتطره ،اليوم اصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي المصدر للاخبار، حتى غدا الرؤساء والسياسيون في العالم يتسابقون على ايجاد مواقع لهم شخصيا على وسائل التواصل الاجتماعي للاتصال بجمهورهم ،بل اصبح الساسة في سعيهم الحثيث الى ( الحاجة للموافقة على افكارهم) يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن يستخدموا مؤسساتهم الاعلامية . وتنقل وسائل الاتصال التقليدية ( مثل التليفزيون او الاذاعة ) فورا تلك الاخبار من تلك المواقع، ويستطيع اي شخص في العالم ان يمرر خبرا لم تعرف عنه وكالات الانباء العالمية. قبل سنوات فقط عندما ترغب ان تحول مبلغا من المال عليك ان تذهب الى البنك او الصراف، وبعد ايام يصل ذلك التحويل الى اصحابه ، اليوم بكبسة زر وانت في بيتك او مكتبك تستطيع ان تشترى او تحول او تتبرع بمبلغ من المال في لحظات لا غير ،ويصل المبلغ قبل ان تغادر مكتبك الى وجهته ! باختصار العالم يتغير من حولنا بسرعة بسبب ثورة التقنية ، يرى الخبراء في التقنية الحديثة أن ما لدينا اليوم من معرفة تقنية ليس اكثر من رأس جبل الثلج، والقادم أعظم واكبر . وأنا اكتب على جهاز الكمبيوتر الآن، لا يفتح هذا الجهاز الا إذا وجد صورتي أمامه، اما غير ذلك فانه لن يفتح أبدا، سوف يبقى ما اكتب سرا لا يطاله أحد، مؤسسة الاستخبارات الامريكية دخلت في نزاع مع شركة منتجة للتليفونات الذكية، لان الاخيرة لم تسمح لها بفتح جهاز لاحد المستخدمين المطلوبين للعدالة ، و قامت شركات التواصل منذ اشهر باعادة تشفير رسائلها المتبادلة بين المستخدمين ،في الغالب حتى تضمن السرية المطلقة وغير القابلة للاختراق ! التغير التقني هائل ، حتى انخفاض اسعار النفط هو من جراء تطور التقنية، فقد ساعدت على تحويل الصخور الى نفط ، واصبحت تنتج ما يسمى النفط الصخري بفضل التقنية المتقدمة باسعار معقولة، تغني جزئيا عن النفط الاحفوري!! الهند بها اليوم ثمانية معاهد للتقنية ، بدأت بواحدة ، اسسها المرحوم جواهر لال نهرو في الخمسينيات من القرن الماضي، ثم انتشرت في الهند، واُسست على غرار ( المعهد التقني في ماستشوزت MIT ) وهي الان تدر على الاقتصاد الهندي عشرين بليون دولار كل عام! كما اصبح الفنيون من الجنسية الهندية، وهم في الغالب خريجوا تلك المعاهد، من كبار المديرين في شركات التقنية الحديثة في الولاياتالمتحدةالامريكية. في هذا العالم الجديد نقطة الارتكاز لم تعد النظريات الاقتصادية القديمة وهي الارض ورأس المال و قوة العمل ، اصبحت النظرية الجديدة هي ما يسمى اقتصاد المعرفة، اي العقل البشري، لقد انتقل الاقتصاد في العصر التقني الى شئ اسمه ( الابتكار) المفتوح للدول و المجتمعات المختلفة، هذا الاقتصاد المعولم تقوده التقنية . اكبر شركات التسويق على الانترنت هي شركة ( على بابا) الذي ابتكرها شخص صيني، اصبح اكبر ملياردير في قارة اسيا ،شركات مثل (ابل) و (جوجل) و(مايكروسوفت) تدر على الاقتصاد الامريكي اكثر من الدخل المُجمع من شركات الطيران او النفط ، لقد غيرت تطبيقات مثل ( ايربامب) و ( يوبر) و ( امازون) كل من صناعة الفنادق والسيارات و المولات الكبيرة على التوالي كما لم يحدث في تاريخ البشرية الاقتصادي من قبل ، كانت الافكار تلحق بالاستثمار, واصبح الاستثمار يلحق بالافكار من اي مكان قدمت. مازال العرب مع الاسف في مربع النظريات الاقتصادية القديمة ، الادخار و الاستثمار و تشغيل العمالة غير الماهرة، في الوقت الذي يسهم معظم العالم في التفكير الابتكاري. وبيع تلك الافكار الى العالم، دون فتح حساب في البنوك ولا استئجار محال او حتى دفع رواتب موظفين في كثير من الاحيان . يجتاح العالم بسب التقدم التقني تغيرا هائلا في العلاقات الاجتماعية ، وفي علاقات السوق والتجارة، وفي العلاقات السياسية، وفي الخطط الحربية ،و في استمالة وتغير افكار الجماهير وفي النظر الى المرأة و في طرق التعليم والتعلم والتدريب و طرق الاعلان والتسويق ، وحتى السفر و المواصلات، بل اصبح الحصول على اتصال مع الشبكة الدولية للانترنت من الحقوق الاساسية للانسان، في حال حجبها تتعرض الدول الى المقاطعة و المساءلة. طبعا لا بد من الحديث عن المخاطر التي تصاحب هذا الانفجار المعرفي، وهي مخاطر شخصية و ايضا وطنية ،تبدأ بما عرف بمرض ( الادمان) على الانترنت الى التعرض للابتزاز وحتى السرقة أو الغواية،وهي مخاطر يمكن حسابها وتوقيتها في المجتمعات الواعية. الا ان الامر الاكيد اننا كعرب ما زلنا ننظر الى هذه الابتكارات باعجاب ودهشة ، وقليل منا يدعو الى احتضانها في مدارسنا و جامعاتنا وسياساتنا ،فنحن ما زلنا ان اردنا قضاء حاجة علينا البحث عن واسطة وتوقيع اوراق لا لزوم لها ،ثم يأتي الجواب ( فوت بكرة)!! لمزيد من مقالات محمد الرميحي