من البشر أناس عاشوا حياتهم بالطول وبالعرض وبالعقل وبالقلب معا، هؤلاء ينبغى أن تظل نظرتنا لهم بقدر ما أعطوا لنهضة الصحافة الحديثة، من هؤلاء رائد مدرسة الصحافة الرشيقة أو أستاذ الأساتذة محمد التابعى قال عنه الأستاذ محمد حسنين هيكل: إننى تأثرت فى البدايات بأربع شخصيات أو نماذج بشرية : أولهم كان محمد التابعى صاحب آخر ساعة،والثانى هارولد ايرل رئيس تحرير الإيجبشيان جازيت، ثم فيليب حنين رئيس القسم الداخلى بها،وأخيرا محمود عزمى الصحفى . فقد كان التابعى وقتها المحرر اللامع بأسلوبه الوصفى الذى ينقل القارئ إلى أجوابا حالمة حول الحدث الذى يكتب عنه. كأنه يقدم صورة صحفية تكشف الأبعاد والزوايا وهو الأسلوب الذى طوره الأستاذ هيكل بعد ذلك فاصطحب القارئ من أجواء الرومانسية إلى خفايا الأحداث وسراديبها الخفية التى لا يراها القارئ وفى حين كان محمود عزمى أستاذا ورائدا فى البناء المنطقى للجملة الصحفية.. كما كان أستاذا أيضا فى البناء المنطقى للأشياء والموضوعات..كان التابعى صاحب نقلة فى الأسلوب الصحفى بعبارته القصيرة المركزة والرشيقة.. عن بداية علاقته بالأستاذ يقول محمد حسنين هيكل : بدأت بمحض مصادفة وكانت نقطة تحول حين دخلت مكتب «هارولد ايرل» رئيس تحرير الإيجبشان جازيت التى بدأ فيها هيكل مشواره الصحفى فى شأن من شئون عملي، وكان عنده زائر قدمنى له: «الاستاد محمد التابعى صاحب مجلة آخر ساعة ورئيس تحريرها«، وبدا لى أن الاستاذ التابعى قد تابع بعض نشاطى أو أن «هارولد ايرل» قد حدثه عنه. وكان الاستاذ التابعى رقيقاً معى ومجاملاً. وفى اليوم التالى اتصل بى يدعونى الى لقاء معه. وذهبت. وسألنى الاستاذ التابعى «كيف أرى مستقبلي؟». وكان السؤال مفاجئاً، فلقد كنت أتصور أن عملى فى «الجازيت» يكفيني، ولكن الاستاذ التابعى كان له رأى مختلف: «مهما فعلت فى الجازيت فإن المستقبل محصور وضيق فهى جريدة تصدر فى مصر بلغة أجنبية «ثم» إن توزيعها بعد الحرب سوف يتقلص بالطبيعة ويعود الى بضعة ألوف بدلاً من عشرات ألوف«. ثم أضاف الاستاذ التابعي« »صحفى مصرى مجاله فى الصحافة المصرية باللغة العربية وبقرائه فيها مئات الآلاف . هذا هو المستقبل«. ثم رفع سيجارته المنتصبة فى مبسمها الذهبى بين شفتيه، وراح ينظر الى بعينيه اللتين يختلط فيهما الرمادى والأخضر والأزرق وقد تدلت نظارته على أنفه وامتد بصره إلى من فوق إطار النظارة. .. وهكذا انتقلت من الجازيت الى آخر ساعة ولم يكن الانتقال سهلاً.. ففى حين أن رئيسى الأول «هارولد ايرل» رأى أن «الجريمة» و«الحرب» هما مجال «التكوين» الأصلح والأمثل لصحفي، فإن رئيسى الثانى «محمد التابعي» كان يرى أن «المسرح» و «البرلمان» هما المجال الأنسب والأوفق ولبضعة أسابيع وجدت نفسى فى كواليس مسارح القاهرة بدلاً من ميادين القتال، ثم وجدت نفسى فى شرفة مجلس النواب بدلاً من محافظة القاهرة التى تصب فيها أخبار كل جريمة تحدث فى مصر وربما كان الاستاذ التابعى على حق على الأقل فيما يتعلق بمجلس النواب، فلقد أتاح لى مقعد آخر ساعة فى شرفة المجلس أن أقترب من أجواء السياسة المصرية.. وكانت تجربة العمل مع الاستاذ التابعى ممتعة. وأشهد أنى تعلمت منه الكثير. ولقد وجدتنى شديد الاعجاب بأسلوبه الحلو السلس. وفى البداية رحت أقلده وفى الحقيقة كانت تلك الفترة، مهنياً، فترة العثور على توازن معقول بين ثلاثة تأثيرات واضحة تجاذبتني: عقلانية «هارولد ايرل» ورومانسية «سكوت واطسون» ثم حلاوة أسلوب «محمد التابعي» يواصل الأستاذ هيكل فى كتابه بين الصحافة والسياسة : كانت العلاقة بين الاستاذ التابعى وبينى قد اصبحت علاقة حميمية وكنت فيما أظن أقرب تلاميذه اليه، ولعلى كنت آخرهم وكان شديد التقدير لعملي، ثم أنه كان يعتبرنى «اكتشافاً» قام به هو شخصيا. وكانت هذه العلاقة تسمح لى أن أتحدث اليه بغير حواجز. وأحسب أنه دهش لموقفى صباح ذلك اليوم الذى أفضى فيه الى بكل الاسرار مرة واحدة. ربما كان يتوقع منى رأيا مخالفاً لتصرفه أو عتاباً لأنه لم يطلعنى على ما فعل فى حينه. ولم يكن ذلك موقفى فقد كنت أحس بأزمة الرجل نفسياً ومادياً وأدركت فى لحظة أنه لم يكن ليصل إلى هذا القرار الا وقد ضاقت به السبل على الاقل فى اطار ما رآه وقلت له ما معناه «إننى مع أسفى لانتقال ملكية آخر ساعة منه الى غيره الا أننى أستطيع فهم دواعيه ومادام الاتفاق قد تم وانتهى أمره فلا فائدة من اجترار الكلام، وانما المهم أن يتم الانتقال بالطريقة اللائقة» ..الأرض بمن عليها. وكانت هناك مفاجآت أخري. قال لى الاستاذ التابعى فجأة: «إنهم يريدون أن أعمل معهم.. أكتب مقالاًَ اسبوعياً فى أخبار اليوم». ولم تكن هذه نهاية المفاجآت، فقد أضاف الاستاذ التابعي: «وهم يطلبونك أيضاً.. لقد أصروا عليك بالتحديد». ولم يتوقف سيل المفاجآت فإن باب مكتب الاستاذ التابعى انفتح فجأة ودخل منه أحد الملاك الجدد: الاستاذ على أمين. لم أكن قد لقيته من قبل، ولكنه أقبل على فاتحا ذراعيه يقبلنى على الخدين ويقول لى أنه لا يهنئنى بانضمامى الى أخبار اليوم، ولكنه أيضا يهنئ أخبار اليوم بانضمامى اليها. وهكذا أتاحت الظروف السعيدة أن يعمل هيكل فى مكانه الجديد بأخبار اليوم مع أستاذه التابعى الذى تعلم منه الصحافة الحديثة وقتها كما سيطر على شخصيته لدرجة أن الأستاذ هيكل قال لى أنه شرب القهوة لأنه شاهد التابعى لا ينقطع عن مكتبه من فنجان القهوة! الرجل الذى رسم كبرياء الصحفى..! واستحق «أستاذ الأستاذة» أن يقول عنه حازم فودة صاحب كتاب نجوم شارع الصحافة: إنه صاحب المدرسة التى أقصدها.. والصحفى والكاتب والفنان.. صاحب المدرسة التى نعيشها وسوف تعيشها أجيال من بعدنا هو أستاذنا الكبير.. محمد التابعي. عشت سنوات العمر الاولي.. أتتبعه.. فى كل ما يكتب.. شدنى قلمه.. حتى أستطيع أن أقول إننى قرأت له كل ماكتب.. وإننى فهمت كل كلمة.. وكل سطر.. وكل موضوع.. وكل قصة.. نشرت له فى جريدة أو مجلة أو كتاب.. لم أكن وحدى الذى انفعل معه .. جيلنا كله انفعل معه.. ومع قلمه.. شدنا إليه أن أفكاره التى كان يعرضها.. كانت أفكارا واضحة لا غموض فيها.. وأنه كان يملك قدرة كبيرة وهو يعرض هذه الافكار.. وشدنا أكثر إليه أن كلماته التى كان يكتب بها سهلة.. بسيطة.. وأكثر من هذا كانت كلماته معدودة تؤدى الغرض الذى أراده.. بحيث اذا حاولت أن تحذف منها كلمة اختل المعني.. واذا حاولت أن تضيف الى ما كتب كلمة .. ضاعت الفكرة.. كان يكتب كلماته بحساب شديد.. ولكنه كان يترك لنا بعد أن نفهم الفكرة التى كتبها زن نستخلص الافكار التى يريدها.. ولم يكتبها.. وكان هذا أقصى النجاح الذى يمكن أن يصل إليه الكاتب. وكنا نلهث وراء المجلات التى يكتب فيها.. ونتعجل صدورها .. كانت روز اليوسف مثلا تصدر فى صباح يوم الاثنين .. فنذهب لشرائها من متعهدى الاقاليم فى مساء يوم الاحد.. وكانت آخر ساعة تصدر فى يوم الاربعاء.. فنذهب لشرائها فى يوم الثلاثاء.. وكنا نحفظ كل مايكتب.. نتذاكره.. ونستعيد فى اليوم التالي.. عندما نتقابل فى حجرة الدراسة أو فى فناء المدرسة.. أو فى أى مكان نلتقى فيه.. وبالحق.. بالحق الواعي.. كان مدرسة أحدثت انقلابا هائلاً فى الصحافة.. وليس صحيحاً أن تلاميذ هذه المدرسة هم الذين عملوا معه.. أو الذين اشتغلوا بالقرب منه أو الذين شملهم برعايته.. ولكن الصحيح أنه مدرسة تخرج فيها كل من تتبع ماكتبه قلمه.. وكل من استوعب الاسلوب الذى كتب به.. وهم كثيرون يشغلون الآن أهم متاعب العمل الصحفى.. وقد حاولت وأنا على أولى عتبات السلم الصحفي.. أن أذهب إليه،، أن أراه.. أن أجلس بالقرب منه.. أن أراه وهو يجلس الى مكتبه.. وهو يمسك بالقلم.. وهو يتحدث الى مصادره بالتليفون.. وهو يتكلم مع المحررين. وعندما دخلت أخبار اليوم.. كنت فرحاً من أجله فقط.. كان أملى أن ألقاه.. ولكنى لم أجد له مكتبا يجلس فيه.. ولكنى وجدت كل المكاتب تفتح له أبوابها عندما يصل.. ووجدت الكلمة تصدر منه تكليفا.. والاشارة أمراً لايناقش. إن تاريخ الرجل الكبير.. صاحب المدرسة.. التى أحدثت انقلابا هائلاً فى الصحافة المصرية. وقد استطاع التابعى أن يكون الدم الجديد الذى دخل الصحافة الفنية.. والذى أوجد فيها كل جديد.. الفكرة والاسلوب والعرض .. لم تكن معروفة من قبل ووجدت قبولا واقبالا من القارئ.. وأحس الناس بكل ما يكتب التابعي، حتى أصبحوا قراءً له.. وليسوا قراءً لمجلة المسرح.. وانتقلوا معه عندما انتقل الى روزاليوسف.. وأكملوا معه المشوار الى آخر ساعة.. لقد عنى التابعى بمظهره عناية كبيرة.. كان أنيقاً.. يختار فى دقة ألوان البدلة والحذاء الذى يناسبها. ثم يختار القميص والكرافت ومنديل الصدر والشراب.. حتى تتناسق ألوانها .. حتى اعتبر من أشيك الرجال.. ليس فى مصر ولكن فى العالم. وكان التابعى لايفعل هذا نتيجة لسعة فى المال يعيش فيها.. ولكن ليرسم الصورة التى يجب أن يكون عليها الصحفي.. وليرسم النظرة التى يطل بها الناس على الصحفي.. وكما رسم التابعى كبرياء الصحفى شكلا. فقد رسمها موضوعا.. فهو لم يذهب الى مصدر أخباره.. بقدر ما جاءت اليه هذه المصادر بأخبارها..كان بكبريائه يكسب الاصدقاء مثلما يكسب مصادر الاخبار.. وقد روى التابعى قصة دخوله السجن فى القضية السياسية المعروفة بقضية «الحصاينة».. وهى القضية التى اتهم فيها مأمور مركز السنبلاوين بتزوير محضر رسمى حرره ضد أفراد أسرة صقر.. وبسبب هذه القضية اهتزت كراسى الحكم من تحت أقدام اسماعيل صدقى باشا.. وقد قال التابعى فى روايته إن مصدر الخبر كان محمود فهمى النقراشى باشا.. وأنه أى النقراشى ظل يبحث عن التابعى طول اليوم لكى يروى له تفاصيل الخبر.. حتى وجده فى النادى السعدى يلعب الطاولة مع حفنى الطرزى باشا. وروى التابعى فى كتابه من أسرار الساسة والسياسة.. كيف حصل على خبر رغبة السراى فى تحسين علاقتها مع الوفد قبل حادث 4 فبراير بثمانية أشهر.. وقال إن أحمد حسنين رئيس الديوان الملكى ذهب الى التابعى يطلب منه التوسط لدى مصطفى النحاس باشا لكى يطلب الاذن بمقابلة الملك فاروق.. وأن التابعى لم يشأ أن يكون هو الوسيط.. فأرسل مندوبا عنه الى مكرم عبيد باشا لكى يقنع النحاس باشا بهذا.. .. وقد كان التابعى يعرف أنه لاشيء يهدم هذه الكبرياء بقدر مايهدمها نشر الخبر غير الموثوق فى صحته.. ولهذا فقد حرص التابعى طول حياته الصحفية على التحقق من كل خبر ينشره وهذا يتضح فيما كتبه عن قصة زواج أحمد حسنين والملكة نازلي.. وكان دقيقاً فى روايته للخبر.. قال إنه تزوجها بعقد عرفى وأن الشاهد الاول كان المرحوم سليمان نجيب مدير دار الاوبرا.. وقد اعترف التابعى فى روايته لخبر هذا الزواج أنه لم يستطع أن يعرف اسم الشاهد الثانى أو الشهود الآخرين.. وكذلك اسم المحامى الشرعى الذى عقد هذا الزواج العرفي.. بل لقد اعترف بأنه فشل فى معرفة أسمائهم.. وأخيراً.. اذا كان التابعى صاحب المدرسة التى أحدثت هذا الانقلاب الضخم فى الصحافة المصرية.. فإنه ايضا صاحب أكبر الخزائن التى تضم ثروة من الاسرار والذكريات.. لو فتحها.. لتحولت الذكريات.. أرقاما.. ولأصبح من أصحاب خزائن البنوك!!