"... إنه عرض صادم. يقطع الأحشاء، ولن أنسى أبدا الصور والأدلة على ما حدث"، تلك أبرز التصريحات التى أدلى بها وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى فى ختام قمة وزراء خارجية مجموعة دول السبع الصناعية الكبرى الأخيرة فى اليابان، خاصة خلال زيارته التى طغت على ذلك الحدث برمته لمتحف نصب السلام التذركارى لضحايا هيروشيما والذى يخلد ذكرى واقعة تدمير تلك المدينةاليابانية فى هجوم نووى أمريكى استهدفها عام 1945 وأسفر عن مقتل 140 ألفا من سكانها بحلول نهاية ذلك العام. ومن المؤكد أن تعبير كيرى عما رآه داخل متحف هيروشيما بهذه الكلمات يدل على مدى تأثره بالمشاهد البشعة الموجودة هناك، إلى حد دفعه إلى تبنى مواقف إنسانية وجعله يصفها بلهجة عاطفية ولكنها ليست بعيدة عن اللغة الدبلوماسية ولغة الدوائر الرسمية، لأنه ليس مواطنا عاديا، وإنما مسئول أمريكى بارز، يعبر جيدا عما يجول بخلجانه من انفعالات بطريقة تحقق المواءمات بين أحاسيسه الشخصية ومصلحة بلاده الوطنية. وعلى الرغم من أن نانسى بيلوسى سبقته بزيارة لهذا المتنزه التذكارى خلال فترة ترؤسها مجلس النواب الأمريكى عام 2008، فإن زيارة كيرى له ربما تمهد الطريق أمام زيارة غير مسبوقة لهيروشيما من قبل الرئيس الأمريكى باراك أوباما خلال مشاركته فى قمة زعماء مجموعة السبع المزمع انعقادها فى 26 و27 من مايو المقبل. ويبدو أن زيارة كيرى لهيروشيما فتحت الباب أمام مسئولى دول أخرى ليحذوا حذوه فى إظهار تلك المواقف الإنسانية، حيث ذكرت مصدر مطلعة على العلاقات اليابانية -الروسية أن سيرجى ناريشكين رئيس مجلس النواب الروسى يخطط لزيارة طوكيو فى يونيو المقبل ليشارك فى مناسبة ثقافية وأنه يدرس زيارة هيروشيما فى أثنائها. وعلى الرغم من أن كيرى لم يقدم خلال زيارته لهيروشيما اعتذارا رسميا على القنبلة النووية التى ألقتها بلاده على مدينة هيروشيما فى 6 أغسطس 1945 والأخرى على نجازاكى بعدها ب3 أيام وتسببت فى مقتل 74 ألف شخص وأدت إلى استسلام اليابان بعدها ب6 أيام وانتهاء الحرب العالمية الثانية، فإن طوكيو لم تعرب عن أسفها لذلك، بل على العكس وصف وزير خارجيتها فوميو كيشيدا الزيارة بأنها يوم"تاريخي"لبلاده، كما أنه وعلى المستوى الشعبي، قال رجل الأعمال اليابانى جون ميورا - 43 - والذى كان فى المتنزه ذى الشهرة العالمية : "لا نشعر بالكراهية ولا بالغضب" حيال الولاياتالمتحدة". وتؤكد مواقف طوكيو الإيجابية فى هذا الشأن وغيره مدى انفتاحها على الأمريكيين، كما أنها تثبت أن اليابانيين حكومة وشعبا تجاوزوا صفحة الماضى وتصالحوا مع أنفسهم بهدف التركيز على الحاضر والبناء من أجل المستقبل مع كل من يشاركهم مصالحهم الإستراتيجية، وقد توصل اليابانيون إلى هذا القرار منذ عقود، وليس الآن. وبنظرة تحليلية، فليس من الخفى أنه وإن كان لكل من واشنطنوطوكيو أسبابه ودوافعه فى الوقوف ضد الآخر خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أن الواقع الإقليمى الحالى بآسيا وما يفرضه على الطرفين من تحديات وتهديدات مشتركة وفى مقدمتها ما تصفه العاصمتان دوما ب"الاستفزازات النووية المستمرة لكوريا الشمالية" يجعلهما يتفقان على حتمية طى صفحة الماضى بكل معطياته والعمل من أجل التركيز على نقاط الالتقاء للتمكن من مجابهة تلك المخاطر. ويتضح بذلك أن المحور "الأمريكى - اليابانى - الكورى الجنوبي" بات يضم اليوم من كانوا بالأمس أعداء وهم اليوم حلفاء. ويفسر هذا النوع من المصالح الإستراتيجية شكل العلاقة الحالية بين العواصم الثلاث. وخلال القمة نفسها أعرب فرانك فالتر شتاينماير وزير الخارجية الألمانى عن أمله فى عودة روسيا لمجموعة الدول الصناعية الكبرى لتصبح مجموعة "الثماني" كما كانت، لكنه استبعد حدوث هذا الأمر خلال العام الجاري. وعلى صعيد الأجندات الرسمية، تضمن جدول أعمال تلك القمة، التى عقدت فى يومى 10 و11 أبريل الحالى، ملفات عديدة هامة، أبرزها مكافحة الإرهاب وضرورة تسريع الجهود الدولية الرامية للقضاء على تنظيم داعش الإرهابي، وثانيا الدعوة لجعل العالم أكثر أمنا عبر التخلص من مخزون السلاح النووي، وثالثا إدانة كل الأعمال الاستفزازية النووية لكوريا الشمالية فى محيطها الإقليمي، ورابعا بحث النزاع الحدودى فى بحرى جنوب وشرق الصين ودراسة الأمن البحرى هناك ودعوة كل الأطراف لضبط النفس، وخامسا بحث أوضاح اللاجئين والأوضاع الأمنية المتدهورة فى سوريا وأوكرانيا، وهذا إجمالى الموضوعات التى تضمنها البيان الختامى للقمة الذى حمل اسم "إعلان هيروشيما" نزولا على رغبة وزير الخارجية الصينى فى تسميته بهذا الاسم. وعلى صعيد ردود فعل بكين، أدانت وزارة الخارجية الصينية تحدث "إعلان هيروشيما" عن نزاعات فى بحر الصين الشرقى والجنوبي، كما استدعت ممثليهم لديها لتقديم شكوى بشأنه، مؤكدة أن وزراء خارجية المجموعة لا شأن لهم بالصين. وتأتى تلك التطورات بعد أن دعا وانج يى وزير الخارجية الصينى وزراء جارجية المجموعة فى وقت سابق لعدم الخوض فى "الخلافات التاريخية أو حتى النزاعات على الأراضي"، مؤكدا أن "ذلك لن يحل المشكلة بل سيؤثر على الأمن الإقليمي"، على حد تعبيره. وفى النهاية ، خلفت قمة وزراء خارجية مجموعة السبع بهيروشيما العديد من الملفات الحيوية التى ما زالت بحاجة لدراسة أوسع ونقاش أدق ليحدد زعماء دول تلك المجموعة ما ينبغى عليهم اتخاذه من قرارات بشأنها خلال قمتهم المزمع انعقادها فى 26 و27 من مايو المقبل، وهو الحدث الذى ينتظره العالم أجمع.