قال أرسطو الملقب بالمعلم الأول: أعرف أني لا أعرف شيئا, فحكمته الواسعة أفضت به إلي حيث الاعتراف الكريم, الذي يليق بشيخ الفلاسفة والحكماء, بالتواضع أمام الحقيقة الإنسانية فبحر المعرفة الذي خاضه وأفاض علي البشر به ما أفاض من ثقافة وعلم, علمه أنه مهما عرف فعليه أن يتواضع أمام المعرفة, التي ستظل دوما احتمالية, مهما تعددت أدواتها التجريبية والعقلية, فكلما كان الإنسان عاقلا, كان متواضعا, وعلي الأقل مقتنعا تمام الاقتناع أن رأيه صواب يحتمل الخطأ, وغيره من الآراء خطأ ولكن يحتمل الصواب! في الفترة الأخيرة انتشرت نوعية من الغرور الأعمي, خاصة مع الترشح للانتخابات الرئاسية, وتعصب كل جماعة لمرشحها وتوجهاته وآرائه, ومراء الآخرين في ذلك, والدفع بالنقيض لدحض وتسفيه الآخر, بالإضافة إلي حالة الثورجة التي تتلبس البعض كأنه احتكر الحالة الثورية, ويفترض أنها يجب ألا تخرج عن بنات أفكاره, ويعطي لنفسه حق التخوين والتقييم الجزافي, ويصل أحيانا للتكفير في مهاترات كلامية, توحي بأن دقت الطبلة وبانت الهبلة, وكم من طبول تدق في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة فكانوا كالدحات يعلو بنفسه إلي طبقات الجو وهو وضيع! فما تكبر شخص إلا لنقص فيه! أخطر أنواع الغرور علي مجتمعنا الذي يمر بمرحلة إعادة البناء علي أسس سليمة هو غرور امتلاك الحقيقة, وهي إشكالية لها أوجه مختلفة فكرية وسياسية ودينية, تقوم علي الخطاب الأحادي الرافض للآخر, فالاشتراكي يتمسك بتوجهاته النظرية للاقتصاد والمجتمع, كأن التاريخ لا يتحرك, ويجب التكرار الأبدي للرحمة الاشتراكية, دون النظر للتحولات العالمية, والتطلعات الفردية, وأهميتها للمجتمع ككائن حي متغير, كذلك الخطاب القومي الذي يأتي علي حساب الخطاب الوطني في الغالب, ويتغاضي عن التنوع الداخلي كأنه غير موجود, مما يسبب قلقا داخليا ينتهز الفرصة ليعلن عن نفسه, كذلك الردة في الخطاب الديني, فأصبح كل فهم وتصور للنصوص الدينية, خطابا مستقلا متعصبا, يفترض من الجماهير التكيف معه, والعداء مع غيره, مهما كان خطابا خارج التاريخ والواقع الجديد, يتوسل الماضي ليعبر عن الحاضر في متوالية لا نهائية في توليد العنف, والعنف المضاد, بسبب غرور من يحول فهمه وتفسيره البشري المحدود إلي خير مطلق أمام شر مطلق. احتكار الحقيقة موقف لا يليق بالعلماء, ولم يعرفه التاريخ الإسلامي, إلا في زمن التراجع والانحطاط, فحرية الفكر والاجتهاد التي توفق ما بين النص والواقع لتصل للغاية الأصلية للمبدأ الأصلي, كانت مكفولة, ومنها تكون الفقه الإسلامي كله, ونأي العلماء المخلصون لله بأنفسهم عن احتكار الحقيقة الأعمي, حتي أن أكثرهم تحفظا الشيخ أحمد بن حنبل قال: انظروا في أمر دينكم فإن التقليد لغير المعصوم مذموم وفيه عمي للبصيرة. التعامل المكرر لنفس التفسير لكل الأفكار الكبري برغم تغير الأزمنة, يخرج هذه الأفكار عن مقاصدها الأصلية, فحركة التاريخ وتحولاته تفرض التعامل مع المجتمعات البشرية ككائن حي متغير, يجب أن يواكبه تجديد للمعاني الخيرة, علي أن يتمتع بالتواضع, لاحترام إجتهادات الآخرين, مما يؤدي إلي ضرورة احترام التعددية الفكرية, فهي علامة صحة وعافية المجتمع, عندها يكون الحوار هو آلية الاختلاف, لا العنف الناتج من الغرور الأعمي, والتعصب لوجهات النظر, فذلك يفضي بالضرورة إلي المراء والخصومة, لأن الهدف ليس طرح اجتهاد للقوانين الكلية ليستفيد منه الناس, ولكن قمع الناس ليكونوا علي شاكلة الاجتهاد, وهذه الفاشية عادة ما تخفي مصالح دنيوية لا علاقة لها بالأفكار النبيلة التي تتشح بها, وكم دفعت البشرية من دماء بسبب ما نتج من صراع الأفكار, ففي حرب الأعوام الثلاثين التي بدأت في أوروبا عام 1618 حتي أبرم صلح وستفاليا لوضع حد للحروب الدينية بين التيارات المسيحية خربت أوروبا, ودمرت مدنها, وأجاعت أهلها, أما التعصب القومي فجر عليها حربين عالميتين لم يشهد فظائعهما التاريخ مثلما حدث فيهما في القرن الماضي! الغرور الأعمي للأفكار, سواء دينية أو قومية أو سياسية يستمد وجوده من وهم الأيديولوجيا الذي يخلط بين المبادئ الأساسية للحياة من الحق والخير والجمال, وتفسير المجتهدين لها, الذي يجب أن يخضع للأخذ والرد, ولا يحمل صفة الديمومة المفارقة للتاريخ, وحكم الزمان والمكان. دينامية الأيديولوجيا تفضي حتما للصدام والعنف, فهي بؤرة الغرور الأعمي, فالأيديولوجيا تحول الفكر المعرفي المنفتح علي الحياة المتجددة, إلي نسق من القيم المتبلورة علي نفسها التي تشكل وعيا زائفا بالواقع والحياة, ورؤية الكون, وتشوه الواقع لإثبات صحتها وجدواها, وتفسر الظواهر الاجتماعية كلها حسب معيارها السطحي الساذج, وعندما تتراجع الثقافة العامة وتنحسر النخبة الواعية لأسباب سياسية واجتماعية, تنتشر الأيديولوجيا الجاهزة بين الناس, ليدوروا في فلكها ليسيطر الدجل علي الوعي الجمعي, الذي يبحث عن قادة تهديه وسط الأزمات العاصفة, وفي تلك المرحلة الحرجة تشهد المجتمعات العربية نوعية من النخب الانتهازية التي تستدعي الماضي الجاهز, وتردده لتبيع أوهام الأيديولوجيا الجاهزة للناس, لفقرها في إنتاج معرفة حقيقية, قد تستطيع تطوير الواقع وأخذه علي طريق الحلول الحقيقية, وتخفيف المعاناة, والتعامل الجدي مع المشكلات, والبدء في البناء والتقدم التدريجي الواقعي, وتفكيك الأزمات, والسيطرة علي الانفعالات, وكل ذلك يتطلب معرفة حقيقية, ورؤية عقلانية طويلة المدي, وهذه النوعية من الكفاءات تزخر بها مصر, لكن البناء الاجتماعي المنهار لا يستطيع أن يستثمر أفضل ما فيه, ويصدر أسوأه, بعد أن دخل المال السياسي بوفرة ليتلاعب بآمال الناس وآلامهم, بنمور الأيديولوجيا الورقية! الأيديولوجيا المغرورة لا تقتصر الآن علي الأفكار الدينية والسياسية والقومية, لكن أيضا أصابت فكرة الديمقراطية, التي يتشدق بها الجميع طلبا لحريته هو فقط في الإيمان أو الاعتقاد أو الثورجة أيا كانت, أولي بديهيات الديمقراطية عدم التسامح مع من لا يعرف التسامح, ولا حرية لأعداء الحرية, فالديمقراطية هي الحوار والتواءم بين المختلفين تحاشيا للعنف الناتج عن الاضطهاد, بينما أصحاب الأيديولوجيا لا يعرفون الحوار, لأن أفكارهم مكتملة شاملة صارمة تفسر نفسها بنفسها, فلديهم كل الحقيقة, فعلي ماذا تناقش وتحاور؟! فالرؤية مكتملة سابقة علي التجربة والواقع, لذلك نجد أغلب أصحابها منافقين ينادون بأشياء ويفعلون عكسها! وسط كل هذا الغرور الأعمي أعود مرة أخري للتاريخ القريب, وأستدعي الوعي المعرفي للتجارب الناجحة مثل محمد علي, الذي بايعه العلماء لينقذ البلاد, فكانوا أشرافا, لم يطلبوا الولاية لأنفسهم, بل وضعوا الأمانة في يد القادر عليها, فقضي علي الفساد, وشرع في بناء الدولة الحديثة, ومن تجربته أستطيع أن أفهم سر التفاف الناس المدهش حول اللواء عمر سليمان عند ترشحه كمنقذ للبلاد, مدركين خطر الجدال والغرور الأعمي, فطول ما أنت زمار وأنا طبال ياما راح نشوف في الليالي الطوال. المزيد من مقالات وفاء محمود