لعل التحدى الأكبر الذى يواجهه عالمنا العربى والإسلامى خلال المرحلة الحالية من تاريخه هو محاولة بعض الجماعات المتطرفة احتكار الحديث باسم الدين الإسلامي. عبر شعارات زائفة، تقدم صورة مشوهة عن صحيح هذا الدين ومبادئه التى تحث على التسامح والتعايش، وتروج فى الوقت ذاته للصدام والصراع ورفض الآخر، وهو ما أسهم فى انتشار الأفكار المتطرفة التى تغذى العنف وتبرر اللجوء إلى الإرهاب. ويعبر انتشار مثل هذه الأفكار المتطرفة عن أزمة قيمية فى المجتمعات العربية والإسلامية، ترجع إلى عوامل متداخلة، بعضها يتعلق بتراجع الدور الذى كان يمكن أن تقوم به مؤسسات التعليم الدينى فى نشر قيم الاعتدال والوسطية وغرسها فى نفوس أبنائنا منذ الصغر، وبعضها الآخر يتعلق بما تشهده مجتمعات إسلامية عدة من صراعات معقدة تستند إلى أفكار فاسدة ونزعات تكفيرية مدمرة تشيع أجواء الصراع الدينى والطائفى وتهدد العالم الإسلامى كله بالدخول فى دائرة مفرغة من التوترات الدينية والمذهبية والاجتماعية، وبعضها الآخر يتعلق بتوظيف الدين من جانب بعض حركات الإسلام السياسى لتحقيق أهدافها فى الوصول إلى السلطة من خلال رفع شعارات دينية رنانة، تدغدغ بها مشاعر الشباب، وأخيرا فوضى الفتاوى الدينية التى انتشرت فى الآونة الأخيرة من جانب أنصاف العلماء، وساعدهم على ذلك العديد من القنوات الفضائية التى تتاجر هى الأخرى بالدين. لهذا كله، أصبح من الضرورى التحرك لمواجهة هذه الهجمة الشرسة التى تواجه ديننا الإسلامى الحنيف من جانب هذه الجماعات التى تتاجر بالدين، وفى هذا السياق، جاءت مبادرة كلية دار العلوم بجامعة المنيا بتنظيم مؤتمر دولى تحت رعاية وزارة الأوقاف، وجاء تحت عنوان (وسطية الفكر فى الدراسات العربية والإسلامية)، شهد على مدى ثلاثة أيام مناقشات موسعة بين نخبة من العلماء والمفكرين من مختلف الدول العربية والإسلامية، وبحضور الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، والدكتور جمال الدين على أبوالمجد، رئيس جامعة المنيا. وشارك فيه نحو مائة أكاديمى من مصر, والسعودية, والكويت والأردن, والعراق, واليمن, والجزائر, وليبيا. وجاءت المحاضرات والأبحاث لتعبر عن الصورة الصحيحة للدين الإسلامي، وتدحض كل ما ينسب إليه من أشكال مغلوطة، سواء كانت فتاوى أو أفكارا مشوهة، وإعادة تأكيد ثوابت الخطاب الإسلامى الصحيح الذى يبتعد عن التطرف، كما بحث المؤتمر آليات مواجهة أصحاب الأيديولوجيات المتطرفة التى تعصف بالعالم الإسلامي، وتقف وراء إشعال الصراع الطائفى والتحريض على العنف، وتفاقم الاستقطاب فى العالم الإسلامي. ودعم جهود إصلاح الخطاب الديني، والعودة إلى الصورة السمحاء للدين الإسلامى الحنيف وإعمال مبادئه وقيمه الإيجابية على أساس أن ذلك من شأنه أن يتصدى لنزعات التطرف والتشدد التى يحاول البعض فرضها على الخطاب الدينى فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية. ولم يكن ببعيد عن أعين المشاركين فى المؤتمر محاولة السعى نحو بناء مشروع حضارى أساسه الوسطية والعودة إلى صحيح الدين الإسلامى الحنيف، ومبادئه السمحاء التى تدعو إلى العدل والسلم والإحسان والتعايش والوئام ومراعاة حقوق الإنسان. وتناول المؤتمر عددا من الأبحاث حول مفهوم الوسطية وخصائصها, ونشر الفكر الوسطى المستنير, ومعالجة الفكر المتطرف, والتأريخ للفكر الوسطى وأثره على اقتصاديات الوطن والسياحة الداخلية والخارجية, إضافة إلى جماليات اللغة ووسطية الفكر عند الغزالي. ووسطية الإسلام فى علاج الضغوط النفسية, فضلا عن تناول الفكر الوسطى وأثره على العلاقات الدولية والإقليمية. والتفاعل اللغوى بين التشدد والاعتدال والدراسات الأدبية بين القديم والحديث، والفكر الوسطى فى الأجناس الأدبية والبلاغة بين التراث والمعاصرة ومناهج النقد الأدبى بين الأداة والرؤية والأدب المقارن وبدائله فى الفكر العربى والوسطية العربية بين الإبداع والنقد. وتناول المؤتمر عددا من الأبحاث حول مفهوم الوسطية وخصائصها, ونشر الفكر الوسطى المستنير, ومعالجة الفكر المتطرف, والتأريخ للفكر الوسطى وأثره على اقتصاديات الوطن والسياحة الداخلية والخارجية, إضافة إلى جماليات اللغة ووسطية الفكر عند الغزالي. ووسطية الإسلام فى علاج الضغوط النفسية, فضلا عن تناول الفكر الوسطى وأثره على العلاقات الدولية والإقليمية. ووجه الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف ، نداءه إلى طلاب جامعة المنيا قائلا: من يأخذك إلى طريق الرحمة والسماحة والأخلاق يأخذك إلى صحيح الإسلام، ومن يأخذك إلى طريق العنف والشدة والدم يأخذك إلى طريق الهلاك والفساد. وقال الدكتور جمال الدين على أبوالمجد، رئيس جامعة المنيا، إن هذا المؤتمر دلالة على أن الجامعة تعنى بوسطية الفكر، وفى خدمة قضايا المجتمع، وهى السبيل الوحيد بالنهوض بالمجتمعات، ولم ندخر جهدا فى التعامل مع الوسطية، بهدف الارتقاء والتنمية، ووصف الدكتور محمد عبدالرحمن الريحانى عميد الكلية ورئيس المؤتمر الوسطية بأنها الاعتدال الذى هو بمنزلة حق بين باطلين فهو اعتدال بين طرفين. كما تحدث عن أهم الخطوط العريضة للوسطية فى الإسلام، سواء فى العبادات أو السلوكيات، وعلينا أن نقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فى وسطيته فى المنهج. وأوضح الدكتور السيد سهيم نائب رئيس الجامعة للدراسات العليا والبحوث، أن رسالة المؤتمر تهدف إلى تصحيح الأفكار الخاطئة الموجودة لدى الغرب عن الدين الإسلامي، وخاصة ما يصدر من بعض الجماعات المتشددة. من جانبه أكد الدكتور قيس آل الشيخ مبارك عضو هيئة كبار العلماء المسلمين بالسعودية والذى شارك فى أعمال المؤتمر نائبا عن مفتى السعودية، أننا مازلنا بحاجة لهذه الوسطية، وعلينا أن نتحرى من الطرق أوسطها، حتى يكون الاعتدال فى السير والسلوك، والتعامل مع البشر، وهذه هى الأخلاق، ويقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). الوسطية عند الفقهاء وفى بحث آخر مقدم من الدكتور آمال محمد عبدالغنى أستاذ الفقه المقارن بكلية الآداب، وعضو المعهد العالمى للعلوم الشرعية، حول (منهجية الوسطية فى الأحكام الفقهية) أكدت أن الوسطية ذكرت فى القرآن عدد خمس مرات، وهى وسطا، الوسطى أوسط، وتدل على العدل والخيرية والتوسط، بين الإفراط والتفريط، وتعرضت لدلائل الوسطية فى الفقه والتشريع الإسلامى بأنها جلية واضحة فقد وصفت هذه الأمة بأنها وسطا، وأنها هديت إلى الصراط المستقيم، والأخير يقتضى الوسطية والاعتدال فلا اعوجاج، ولا تفريط، وأن الله نهى عن الغلو فقال تعالي: (لا تغلو فى دينكم)، وقالت إن الوسطية هى الخيرية، ومحاسن الأخلاق ومكارمها هى الوسط بين طرفين، وقالت إن العلماء أجمعوا على عدم وقوع المشقة غير المعتادة فى التكاليف الشرعية، ولو كان واقعا لحصل فى الشريعة التناقض والاختلاف وهى منزهة عنه، وأشارت إلى أن مصادر الاجتهاد عند الفقهاء تنوعت فما بين موسع ومضيق قديما، وكذلك تنوعت فى عصرنا المجامع الفقهية المتعددة التى تعتمد على استنباط الأحكام وإصدار الفتاوى بما يتوافق مع ثبات النصوص وتغير الأزمان الأماكن، وبروز المواقع الإلكترونية. وفى ختام أعماله دعا المؤتمر إلى تبنى الرؤية الوسطية فى فلسفة التعليم، واعتماد مقرر خاص باسم “الثقافة الوسطية” لتأسيس معايير الوسطية التى تقضى إلى بناء شخصية الاعتدال والتوازن لدى طالب الجامعة وتنمية مهاراته فى ربط الظواهر وتكاملية المناهج وتداخل المعارف. وطالب المؤتمر بترسيخ الرؤية الوسطية فى الفضاء الثقافى العام، وبلورة خطابها، والكشف المعرفى عن إيجابياتها، ويصدر عن هذه الرؤية روح التسامح وعقلانية التفكير، وصدق الشعور فى التواصل والحوار مع الآخر. وأكد المؤتمر فى بيانه الختامى أن تكريس الرؤية الوسطية يقدم الحل الناجع لمشكلات العلاقات بين المجموعات الاجتماعية، وطالب المؤتمر بتبنى خطاب الهوية الوسطية التى تسد أبواب الصراع أو التناقض بين هذه الأقطاب، كما يرى المؤتمر أن الشهادة على العالم إذا قصد بها أن تكون فى الدنيا إنما تكون بمعنى إقامة الحجة والشاهد والدليل والقدوة على أن تحقيق المقاصد الكبرى للدين عبادة وفهما وسلوكا خير نافع وجامع بين المبانى والمعاني، ودعا المؤتمر إلى تأسيس مركز تحت اسم مركز دراسات الوسطية فى العلوم العربية والإسلامية، يكون هدفه تطوير هذه العلوم ليكون لها منظور حضارى قائم على الرؤية الوسطية. وتبنى المنهجية العلمية الوسطية التى تعد الركيزة الفضلى لقيام المؤسسات الإعلامية بأجهزتها ومنابرها وقادة الرأى فيها برسالتهم النبيلة ودورهم الفاعل صوب تفكيك ظواهر الغلو والتطرف والانحراف. كما أوصى المؤتمر بالعمل على إنشاء موقع إلكترونى يكون هدفه التأسيس للنظرية الوسطية فى العلوم العربية والإسلامية، وعلاقاتها المقارنة بفلسفات العلوم للوسطية فى الحياة الاجتماعية، ودعا المؤتمر إلى أهمية دراسة آثار التنوعات المجتمعية والحضارية فى تأطير مفهوم الوسطية ورسم معالم المشاريع العلمية القائمة فى المؤسسات البحثية المعنية بالدراسات الإسلامية والعربية.