اتخذ الرئيس بوتين قرار المشاركة العسكرية فى الأزمة السورية فجأة فى ظل متغيرات عسكرية وسياسية كانت تشهدها الساحة السورية آنذاك وفى ظروف إقليمية ودولية لها أهميتها، وأعلن الرئيس بوتين يوم 14 مارس سحب معظم القوات الروسية، خاصة القاذفات الجوية الأحدث من سوريا وبدأ الانسحاب فعلاً والسؤال هنا لماذا ذهبت القوات العسكرية الروسية إلى سوريا ولماذا انسحبت تلك القوات. إن الوقوف على الأهداف الاستراتيجية للعملية العسكرية الروسية فى سوريا بأبعادها العسكرية وإفرازاتها السياسية، يتطلب النظر للاعتبارات التالية: أولاً: على المستوى السوري: وضعت روسيا منذ بداية تدخلها العسكرى سقفاً محدداً للمشاركة العسكرية وهو منع انهيار النظام السورى ومؤسسات الدولة السورية بعدما زادت القوى الإقليمية المساندة للفصائل العسكرية جهاديةً وإرهابيةً من دعمها العسكرى لها ونوعية هذا الدعم ومساندة واشنطن لذلك بصورة ملحوظة، الأمر الذى أتاح لها تغيير ميزان القوى العسكرى لصالحها ومحاصرة جيش النظام والمنظمات الإيرانية والشيعية المساندة له، لم يتحدث الروس منذ بداية التدخل عن السعى لتحقيق حسم عسكرى للأزمة السورية لأنهم أدركوا منذ البداية أن ثمن ذلك يعنى التورط فى المستنقع السورى وهو ما لا يتوافق مع الاستراتيجية الروسية ويتضمن انتباهاً روسيا لسعى واشنطن لتوريط روسيا وتكرار نموذج أفغانستان. الموقف الروسى هنا، استهدف بوضوح منع مؤسسات الدولة السورية والنظام من الانهيار وإزاحة فصائل المعارضة العسكرية بعيداً عن قوس الأمان للنظام، وهو ما يغير ميزان القوى العسكرى ويحسن الموقف التفاوضى للنظام، والملاحظ أن الانسحاب الروسى لم يتعارض مع تلك الأهداف، فقد احتفظت روسيا بالركائز اللازمة للتدخل العسكرى السريع عند الضرورة. ثانياً: على مستوى التعامل مع تنظيمات المعارضة العسكرية: نجحت روسيا فى القيام بعملية فرز للتنظيمات العسكرية المدعومة من دول إقليمية خاصة تعرية الموقف التركى والقطرى المساند لجبهة النصرة (جناح تنظيم القاعدة فى سوريا) مع استثنائها هى وبعض الفصائل المرتبطة بها من المشاركة فى العملية التفاوضية، الأمر الذى رتب خلافات واسعة بين النصرة والفصائل الكبرى الأخرى التى وافقت روسيا على مشاركتها. لا شك أن نجاح روسيا فى إغلاق الحدود التركية التى كانت منفذاً للعناصر التابعة للنصرة وغيرها، بعد تدهور العلاقات مع تركيا قد أرغم واشنطن على تبنى قضية تأمين تلك الحدود التى كانت تمثل اختراقاً أيضاً لتنظيم داعش، وأهم من ذلك كله فإن نسبة كبيرة من الطلعات الجوية الروسية استهدفت بالدرجة الأولى التنظيمات التى حاولت اختراق طوق الأمان للانتشار العسكرى لقوات النظام سواء فى حلب أو حمص أو القلمون أو درعا أو دمشق وهو ما أدى إلى تراجعها بصورة ملحوظة. ثالثاً: على مستوى التعامل مع القوى الإقليمية المتورطة فى الأزمة السورية: نجحت روسيا فى المحاصرة النسبية لتدخلات القوى الإقليمية المساندة للفصائل العسكرية والحد من اندفاعاتها والملاحظ هنا أنه فى الوقت الذى طالبت بعض هذه القوى بالتدخل البرى المباشر وإعلانها عن بداية اتخاذ خطوات جدية بهذا الخصوص ووضع أجندة لحل الأزمة السورية طبقاً للخيار العسكري، كانت روسيا تجرى حوارات مكثفة مع الولاياتالمتحدة لدعم خيار التفاوض السلمى وفرض هدنة عسكرية وهو ما سبب الكثير من الحرج لتلك القوى وأدى إلى تراجع ما تمتلكه من أوراق تأثير فى مستقبل الأزمة. وكان واضحاً من ناحية أخرى حدوث تباينات استراتيجية بين الموقف الروسى والموقف الإيرانى خاصة فى ظل الالتزام الإيرانى بدعم الرئيس الأسد وعدم التخلى عنه وهو ما لا تلتزم به روسيا، فضلاً عن تباينات متعددة فى أجندة الطرفين بخصوص سوريا والمنطقة وأهم ملمح هنا أن الأهداف الإيرانية من الانخراط فى الأزمة ذات أبعاد إقليمية محملة بغطاءات مذهبية، أما الروسية فهى استراتيجية ذات أبعاد دولية . رابعاً: على مستوى التفاهمات الدولية: أسفر التدخل العسكرى الروسى فى سوريا فى البداية معارضة كبيرة من واشنطن والدول الأوروبية التى رفضت السعى الروسى لتغيير ميزان القوى العسكرى وزادت من حجم دعمها للفصائل العسكرية حتى المتهمة منها بالإرهاب وبدأ الحديث عن مشاركات أوسع إقليمية ودولية لضرب داعش، رغم أن هناك تحالفاً دولياً سبق تشكيله من 60 دولة يبدو أنه كان قد توقف وبدأت عملية تجديده للمزايدة على التدخل الروسي. والملاحظ هنا أنه رغم قيام روسيا بأربعة آلاف طلعة جوية تحت غطاء مواجهة الإرهاب الداعشى حتى لا يمتد إلى أراضيها، إلا أن نسبة ليست كبيرة منها هى التى تعرضت لداعش وأسفرت عن وقف تهريب البترول. وكشفت الموقف التركى بهذا الخصوص وأسهمت فى تعرية موقف دول التحالف الدولى وطلعاتها الجوية التى لم تسفر عن تحقيق أى مكاسب إستراتيجية فى مواجهة داعش، الذى لا يزال يتمدد فى بعض المناطق فى شمال سوريا. إذا ما انتقلنا للوقوف على أهم التداعيات المرتبطة بالانسحاب الروسى من سوريا فإنها تتركز في: أولا: الانسحاب قدم دعماً معنوياً وسياسياً كبيراً للعملية التفاوضية الجارية بين النظام وقوى المعارضة على اختلافها ويسحب الكثير من مبررات تلك المعارضة أو القوى المساندة لها لتصعيد الأزمة وإرغام الجميع على المحافظة على الهدنة وتحميل واشنطن وتلك القوى الإقليمية مسئولية ضبط القوى المعارضة ذات الصلة بها. ثانيا: الانسحاب تضمن كذلك تحذيراً للنظام وكشف عن وجود خلاف بين الطرفين خاصة الرفض الروسى لأولويات النظام السورى فى العملية التفاوضية التى لا تزال تركز على محاربة الإرهاب قبل مناقشة العملية الانتقالية ورفض تصريحات قيادات النظام بهذا الخصوص والتى تتناقض مع التفاهم الروسى الأمريكي، الأمر الذى يُرجح معه حدوث تغيير فى مواقف النظام واضطراره فى النهاية لتقديم تنازلات تسمح بمواصلة العملية التفاوضية وصولاً لتسوية سياسية وسوف تبقى التساؤلات مطروحة حول كيفية تعامل النظام السورى مع الضغوط الروسية التى لا تزال تمتلك الأدوات والقدرة على تطويع مواقفها. ثالثا: روسيا تسعى من خلال مجمل حركتها سواء قبل الانسحاب أو بعده تأكيد أنها تمتلك القدرة على التوصل إلى حل سياسى للأزمة وتسويتها وأن مسار التسوية لتلك الأزمة يجب أن يمر عبر البوابة الروسية. رابعا: من الواضح أيضاً أن هذا الانسحاب وتزامنه مع الهدنة العسكرية سوف يرتب مزيداً من الإرباك للتنظيمات العسكرية المعارضة وقد بدأت مظاهر الانقسام تتبلور داخل بعضها وهو ما سبب إحراجاً للدول الإقليمية المساندة لها. خامسا: إن التدخل العسكرى والانسحاب الذى أعقبه يؤكد القدرة العسكرية الروسية للتحرك خارج الفضاء الاستراتيجى للدولة الروسية، ومع أن هناك إدراكا واضحا أن سوريا لم تشغل أولوية متقدمة ضمن استراتيجية الأمن الدفاعى الروسى إلا أن الحضور الروسى فى سوريا قد أضاف أبعاداً جديدة لتلك الاستراتيجية ودشن مصالح تنطلق من سوريا إلى دوائر محيطة بها ووفر أدوات للحركة الاستراتيجية والتعامل مع القوى الدولية والإقليمية المنافسة. من المرجح أن تبقى المساندة الإيرانية للنظام على ما هى عليه ومن المستبعد أن ينسحب حزب الله من الانخراط فى الأزمة السورية، ونشير هنا إلى انخراط الحزب فى الأزمة السورية يرتبط بعناصر الاستراتيجية الإيرانية ليس تجاه سوريا فقط ولكن على مستوى الإقليم وهى عناصر مترابطة، وإن كان من المتوقع أن يعيد الحزب انتشار وتغيير مجموعاته القتالية وتمركزها فى المناطق ذات الأهمية التى تتوافق مع مصالحها الاستراتيجية. كما أن الانسحاب يمكن أن يسهم فى تحسين علاقات موسكو بالدول الخليجية خاصة السعودية وربما ينعكس ذلك فى بعض التفاهمات الخاصة بسوق البترول وتفهم الموقف الروسى بهذا الخصوص وصولاً إلى سياسات تسمح بالتحكم فى سوق العرض لزيادة الأسعار وتدعيم العلاقات الاقتصادية والعسكرية بين الطرفين فى ظل ما يُثار عن صفقات تسليح وحجم استثمارات تنتظرها روسيا لدعم اقتصادها الذى يعانى الحصار الأمريكى الأوروبي. هكذا نرى أن الرئيس بوتين جاء بقواته إلى سوريا وحقق بعض أهداف تدخله وانسحب فى توقيت مناسب يمكن أن يحقق له شعبية داخلية قبل الانتخابات البرلمانية الجزئية القادمة، واستفاد من تردد الإدارة الأمريكية الواضح فى التعامل مع الأزمة السورية لتحقيق نوع من التفاهم الثنائي، ولم يتخل عن المكاسب الاستراتيجية التى حققها من تدخله العسكرى فلا تزال لديه القدرة على التدخل عند الضرورة للمحافظة على توازن القوى العسكرى الحالي، ولكن سوف يبقى السؤال الأهم ماذا إذا لم تنجح العملية التفاوضية وفشلت الهدنة العسكرية، ولعل هذا يكون موضوعاً لمقال أخر. لمزيد من مقالات د. محمد مجاهد الزيات