تسميات وألقاب كثيرة أطلقت علي محمد حسنين هيكل: الاعلامي والصحفي ورئيس التحرير، المؤرخ، غير أن أقرب التسميات التي يمكن أن يتركها في الأذهان كانت هي المؤرخ، فمن يرصد مواقف الأستاذ لحقبة طويلة عاشها يمكن ان يلاحظ انه ربما كان أهمها هذا المؤرخ الذي يحمل في عقله وبين أوراقه الكثيرمن هذه الأوراق وتلك الوثائق منذ عمل في بلاط صاحبة الجلالة منذ أربعينيات القرن العشرين فعرف حكاما ومسئولين ومثقفين كثيرين،فقد عمل منذ فترة مبكرة في«ايجيبشيان جازيت« وشارك في تغطية حرب فلسطين وثورة مصدق الاولي في ايران ثم الأهلية في البلقان، فضلا عن معارك العلمين في الحرب العالمية الثانية قبل ان يعبر الي الخمسينيات حتي اليوم. الوثائق أيها السادة ما حرص عليها الأستاذ كثيرا قبل رحيله وبعدها.. ويزيد من ذلك أهمية أن الأستاذ لم يكن محررا أو صحفيا وحسب وإنما، وبتعبيره شاهدا ومعاصرا »إنني عشت مرحلة عبد الناصر من الداخل والخارج، كذلك السنوات الأربع الأولي من حكم السادات فقد كنت خلالها أقرب رجل وإنسان إليه«. وهذا يعني أن الأستاذ لم يكن كاتبا أو صحفيا أو مدونا وحسب، وإنما كان شاهدا ومشاركا إلي حد بعيد، يضيف هنا« من الممكن ان أروي الحقائق لانني كنت موجودا وشاهدا«، بل انه يتجاوز مرحلة الشهادة إلي الدأب واليقين عبر التوثيق.. ولا يخلو من معني أن الأستاذ يذكر بالفعل المثل العربي الذي يحمل دلالة كبيرة هنا وهو » وما آفة الأخبار إلا رواتها«؛ ليؤكد بالتبعية - في أكثر من مرة أنه اهتم اهتماما كبيرا إلي جانب الشهادة بالوثائق بالحرص عليها في تدوينه الصحفي والتاريخي. وعلي سبيل المثال فهو يؤكد أنه قبل أن يبدأ تدوين أحد كتابيه(سنوات الغضب) و(الانفجار) كان قد حصل علي وثائق »بأكثر من أربعين ألف دولار« وهوما يمكن معه أن نلاحظ معه أهمية ما قدمه من كتابات فضلا عن هذه الشهادة التي مكنته من الاقتراب من جمال عبد الناصر كثيرا، فهو يسعي ليجمع بين الشهادة والوثيقة التي تأتي كلمته بتعبير« دقيق التي تختلف عن كل هؤلاء و«معي الدليل علي أنه حدث«، وهو ما نفهم معه كيف كتب عن الفترة السابقة فترة فؤاد وفاروق؟ وكيف كتب عن الفترة التالية - الناصرية-؟ ثم هذه الفترة التي أعقبت ذلك حتي رحيله.. وهو ما يشير في السياق الأخير إلي أن »الأستاذ« كان يستعين بالوثيقة، وفي الوقت نفسه يحذر مما يمكن أن يطلق عليه هوس الوثيقة، فيكون واعيا لدرجة الإفادة من هذا المصدر أو ذاك. وقد يكون من المهم هنا أن نشير إلي أن الأستاذ لم يكن ليهتم أن يطلق عليه صفة المؤرخ رغم دقته في التعبير عبر الطريق الصحفي الذي اختاره، فقد كان يشدد في الفترة الأخيرة علي هذه العبارة« أنا مهتم بالتاريخ المصري الحديث.. (و).. ولكنني لست مؤرخا ولا أريد أن اكون » مؤثرا الحيدة التامة في كل ما يسجل علي اعتبار أن الالتزام بالحيدة والواقع يظل أهم ما يجب أن يحرص عليه الكاتب أو الصحفي أو المؤرخ.. وهو كان يحمل كل هذه الصفات. بيد إننا لا يمكن أن ننهي هذه السطور دون ان ندعو معاصري الأستاذ من بين الاهل والمثقفين - أن يحاولوا الحرص علي كثير من الوثائق والأوراق الخاصة وهي كثيرة كانت بين يدي الأستاذ قبل رحيله، في حقائبه الخاصة وخارجها، وهي لا تعد بالآلاف وحسب، وإنما لا تقدر أهميتها الفكرية والوطنية بثمن في رصد التاريخ المعاصر، فمازالت كلماته الأخيرة بيننا » من الممكن أن أروي الحقائق لأنني كنت موجودا وشاهدا.. ولكنني بلغة التوثيق أقول: كنت موجودا وشاهدا بمصداقية؛ وبلغة التوثيق أقول: كنت موجودا وهذا هو الدليل من خلال الوثائق ».. وهذه هي رغبة الأستاذ الأخيرة.. الوثائق أيها السادة. لمزيد من مقالات د.مصطفى عبدالغنى