فى وطنى رايات كره ترفرف، ووجوه كئيبة من كل حدب تُطِل، وعيون لا ترى إلا القبح لترصده، وقلوب خرجت عن معين فطريتها فاستحالت بشرا غير سوي، أينما توجهها لا تبذر إلا شقاق ولا تحصد إلا الفرقة، هذه مكونات واقع عاش فيه بنو وطني، خلال عقود الفساد والإفساد، حتى باتت المسيطرة على صور الواقع، وما كان من المتربصين بالمستقبل إلا أن طوروا هذه الصور واستثمروها لتصبح هى كل مكونات واقعنا، ويغدو فى المقابل كل باحث عن أصل هويته، وروح وطنيته، وسر ما كمن فى الوعى المصرى من أسرار قوته، خارجاً عن كل أطر الزمن ليحارب طواحين هواء وهمية .ويجب أن نعترف فى هذا الصدد بأن إرادة الأعداء لوطننا وإنسانيته، سعت بكل طاقة ووسيلة إلى (إشاعة الكُره) باعتباره أصلا فى مصر والمصريين، ولم يعدَموا وسيلة لترسيخ هذا الرصد المشوه، والتعميم المعيب لشذوذ القاعدة فى مصر ليحولوه إلى أصل من لا يجاريه يتحول إلى «سنيد» فى فيلم واقع جديد كئيب، أبطاله كل المشوهين الخارجين من رحم عقود عديدة ولت، فى مواجهة ذاك «السنيد» الذى يمثل دور الشخصية الخارجة من المتحف (بيومى أفندي)، أو (أبو العلا البشرى) وقبل قرابة خمسة عشر عاما كان أن سألت المذيعة فى فيلم (اللى بالى بالك)، بطله الساقط من كل حسابات الواقع (اللمبي)، عن السر فى دخوله السجن، فأجاب قائلا (واحد مصاحب على علوكة، وأشرف كخة عايزاه يطلع إيه طيار؟)، هذا السؤال الساخر الذى طرحه الممثل الموهوب - وقتها- على قدر عفويته وهدفه المرجو - إضحاك الجمهور-، استيقظ مجتمعنا من آخر ضحكاته على (الإفيه) ليفاجأ بأن جموعا من مكونى الواقع قررت أن تحول (على علوكة و أشرف كخة) إلى أبطال نموذج فى حكايات الواقع اليومي، تحولوا إلى كابوس يفرضه الجميع على واقعنا باعتباره المكون الوحيد للواقع. فتفننت منظمات السياسة فى طرح رؤى (الهدم) دونما أى رؤية للبناء، وأبدعت قريحة صناع الفنون فى تحويل (علوكة وكخة) إلى وجوه فنية تطل ملامحها عبر أعمال يتقاسم بطولتها (البلطجى)، مع (الساقطة) و(الفاشل)، والكومبارس مجموعات من الضحايا والمشوهين ومعهم فرد يؤدى دور الواعظ! وبالتأكيد روج لهذا الواقع تنظيمات الدين السياسى وعلى رأسها الإخوان، حين قررت أن تحول سماحة الأديان إلى ضيق التنظيمات، فأفرزت خطباء «قبح» يملأون الآذان بضجيج وصراخ (أنت ما بتصليش ليه؟)، ودعاة فتن يخرجون عن كل معنى لهدف التعايش بتساؤلات من عينة (هل يجوز تهنئة المسيحيين بأعيادهم؟ وأليست حرما وجمعا بدعة؟)، وبرامج دعوية تسعى لاستقطاب (الملتزمين أخلاقيا) فى المجتمع باعتبارهم (أصحاب مبادئ أساسية)، ليس بهدف إثراء إلتزامهم، وإنما لاستدماجهم فى ماكينة التنظيمات تمهيدا لاستثمارهم بما يخدم خططهم غير المعلنة.وهكذا تضافرت جهود «الفاسد السياسى» مع «الفاسد الإعلامى» مع «الفاسد الدينى» ومعهم جميعا «الفاسد الإدارى» ليعمموا ثقافة «الكره» فى مجتمعنا، وبالتأكيد اتسعت دوائر هؤلاء الفسدة المفسدين لتشمل أصنافا وشخوصا انساقت لهذا الهدف بغير وعى، أو رغبة فى نجومية العصر أو مجاراة لواقع لا تملك مقاومته. لينهال على صورة مصر والمصريين التى كانت 1919، ركام السنين وأوجاع العصور ومؤامرات الدنيا. ولا يمكن فصل هذا الاستهداف لنشر ثقافة «الكره» فى مصر باعتبارها الأصل، عن مشروع عالمى ترعاه (أمريكا)، وتسعى لتطبيقه واقعا يتمثل فى (شرق أوسط جديد) وكبير فى مكاسبه على تصدير الصورة الأمريكية باعتبارها صاحبة الحضارة الوحيدة والقديمة والجديدة فى عالم كل من فيه وخاصة مجاورى دولة الكيان الصهيونى أمم من الرعاع والسوقة والدهماء لم يحفظوا حضارة أسلافهم ولا يستحقون خيرات أوطانهم. وهذا بالتأكيد ليس هوسا بنظرية المؤامرة قدر كونه هوسا بقراءة النص خارج السياق المرسوم.وفى قتامة المشهد تحمل لى مكالمة هاتفية دعوة لندوة تقيمها مجموعة مصرية من أهالى المقطم تحمل اسم (جروب المحبة)، وترفع لافتة (المحبة لا تسقط أبدا)، فكرة نمت بين عقول استشعرت خطورة شيوع الكراهية وآمنت بأن مكامن الشخصية المصرية بغير محبة تذوب فى أتون المؤامرات الآنية.لا يهم أسماء لأن حصر الفكرة فى أسماء يقلل من قيمتها، لكن المكونات أعمار متباينة تشمل كل الشرائح العمرية، وثقافات متعددة المشارب، ودين يؤمن بالله مسلما كان أو مسيحيا، ومظهر خارجى متباين ما بين حليق وملتحى وأنيق وبسيط ومتبرجات ومحجبات. والأكثر إدهاشا أن من رعاة المجموعة شيوخ أئمة مساجد وقساوسة من كنائس مصر المختلفة. لكن المفاجأة الأكبر كانت فى مكان الفعاليات المجمعة التى حالت التعقيدات الإدارية والمالية فى أن تكون داخل مركز أو قاعة مدرسة أو غيرها من أماكن مفتوحة، فقرر الشيوخ والقساوسة أن يتبادلوا احتضان فعاليات المحبة مرة فى كنيسة والأخرى فى مسجد.حملتنى الدعوة لأحضر بين أعضاء (جروب المحبة فى المقطم)، بصفتى محاضرا فوجدتنى أتضاءل بين قامات سامقة رغم انزوائها بعيدا عن الأضواء، وأجلس فى مقام المتأمل فى وجوه تحمل كل أمل وقلوب معينها المحبة، كنت أتحدث للمصريين فى إحدى قاعات مسجد (التقوى) بينما الجمهور يتعانق مسلمين ومسيحيين مكونا منمنمة للمحبة قادرة على أن تستحيل درعا يحمى المستقبل، أوصيتهم بأن يطرحوا مشروعهم كاملا على شبكات التواصل الاجتماعى ليصبح نموذجا قابلا للتطور، فكانت المفاجأة أن سيطهم وصل لحدائق الأهرام، وبدأت التنويعات على أوتار المحبة، فمصر كما المحبة.. كلاهما لن يسقط أبدا. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى