أخطر مهمة لأى سلطة حاكمة فى كل بلاد الله، هى أن تصنع الأمل وسط الصعاب، وتمكن شعبها من رؤية الضوء فى نهاية النفق المظلم، وهى مهمة شاقة، تزداد صعوبة فى فترات التحول، بأحمالها الثقيلة المزعجة على نحو يفوق الاحتمال، إذ تتضافر التحديات النابعة من الداخل والمهددات الآتية من الخارج. تعى السلطة الحالية بمصر تلك المعادلة الرهيبة، تبدى هذا الوعى فى خطاب الرئيس السيسى، خلال إطلاق «استراتيجية مصر 2030»، حاول أن يشرع للشعب بوابات الأمل فى غد أفضل، طمأنه أن بناء مرافق الدولة يسير على قدم وساق، لكنه صارحه بوضوح شديد بالتحديات والمزالق على طريق التقدم، فالناس إذا لم يعرفوا من أين يبدأون رحلتهم إلى المستقبل، يصبح السفر إليه نوعا من المستحيل..! وبداعى الوضوح، فإن الشعب الذى ثار مرتين فى أقل من ثلاث سنوات، يعرف حجم التحديات ويرى الغيلان المتربصة على الطريق، وكلها غيلان متوحشة: البطالة والفقر غول، الفساد غول، الإرهاب غول، الديون غول، غلاء الأسعار غول، سد إثيوبيا غول، الحروب الدائرة فى المنطقة والقوى الإقليمية والدولية الطامعة غول يترصد ويربك ويتحين فرصة ليقضم ويمزق.. قائمة الغيلان طويلة، والخوف ليس حلا، لا تتيح الظروف الحالية مواجهتها مجتمعة، ومن ثم ولدت «استراتيجية 2030»، لكنها وحدها ليست كافية، تحتاج إلى خطوات متزامنة أبعد وأقوى، لوقف محركات التدهور وإدارة التغيير بأدنى تكلفة وأعلى عائد ممكن،وهذا قلب الفعل السياسى، لأن السياسة –كما عرفها الأستاذ هيكل يوما- هى: «تنبيه أى شعب إلى مكانه ومكانته، وإلى تاريخه وهويته، وإلى اكتشاف قدرته وهمته، والدفع بإمكاناته وإرادته بقصد حشد وإدارة ما يملكه من موارده الطبيعية والإنسانية التاريخية والاستراتيجية، الاقتصادية والثقافية، بما يكفل بلوغ الحد الأدنى من مطالبه، ويسعى بيقظة وكفاءة لتحقيق الحد الأعلى لهذه المطالب»، هذا ما يسعى السيسى لإنجازه، لكن التحديات هائلة، أخطرها الوضع الاقتصادى الذى يترك آثاره السلبية على حياة كثير من المصريين، ويحد من قدرة وطنهم على استعادة مكانته ودوره البارز إقليميا ودوليا، خصوصا مع تنامى رغبة بعض القوى فى إلحاق الدور المصرى بركبها، ليكون تابعا لاقائدا للمنطقة –كما ينبغى- لذا لا نجاة للمحروسة إلا بتحولها إلى قوة اقتصادية حقيقية . يتطلّب الأمر تغييرات عميقة فى بنية الاقتصاد، لتنطلق قاطرة التنمية بسرعة تتيح حل المشكلات المتراكمة من أزمنة مضت، أول هذه التغييرات أن تكف الحكومة عن اتباع سياسات النيوليبرالية، والإفراط فى محاباة شريحة رجال الأعمال على حساب غيرهم، وأن تتوقف عن التلويح للغلابة برفع أسعار الخدمات، من مياه وكهرباء ومواصلات وغيرها، لايعنى ذلك الوقوف ضد رجال الأعمال، المطلوب أن تتوزع أعباء الإصلاح بإنصاف على الجميع، فى بلد يئن نصف سكانه تحت وطأة الفقر. والفقراء - بحسب الروائى الانجليزى تشارلز ديكنز - يعرفون عادة كيف يحافظون على أفئدتهم صافية نقية.. وقد دفعوا وكل أبناء الطبقة المتوسطة نصيبهم مرات برضا، فى فاتورة الإصلاح، عندما تم خفض الدعم، إيمانا بقدرة الرئيس، على وضع حد لحالة الانحطاط وقيادتهم لساحات أمل طال غيابه، لكنهم اليوم يتململون وهم يرون أن لوبى أصحاب المصالح الخاصة مازال يتصدر المشهد، كما أن مافيا النهب المنظم لأراضى الدولة تأبى التخلى عما نهب، ولو بالتراضى، شريحة طفيلية فاسدة، تسيء لقطاع شريف نزيه إنهم «رجال أموال» لا أعمال، تربطهم علاقات معقدة من المشاركة، ينظرون إلى بعض «أصول البلد» بوصفها غنائم قابلة للقسمة بينهم، أو مطلوبة للاحتكار. خذلوا الوطن والرئيس مرارا، لم يمدوا يدا لصندوق «تحيا مصر»، تصدوا لضريبة أرباح البورصة، وضريبة ال5% على الثروة، يهربون أرباحهم للخارج، موجهين ضرباتهم الفنية إلى الجنيه، ليسقط أمام الدولار بالضربة القاضية، الغريب أن الحكومة تستل ما فى جيوب الطبقة الوسطى، بتخفيض الدعم، بينما تبادر لتخفيض الضرائب على الأغنياء من 25% إلى 22.5%، فى وضع مقلوب ومخالف لدستور نص على مبدأ «الضرائب التصاعدية»، أغنياء يتصدون لأى دعوة للنظر بمسئولية إلى الأوضاع الراهنة، بشحذ أسلحتهم من أحزاب وفضائيات وصحف وأتباع، لمنع أى خطوة، نحو «عدالة اجتماعية» مطلوبة وواجبة بشكل عاجل وواسع، إنهم «فضة المعداوى» أشد طمعا وأكثر وحشية، ومن ثم فلا ترياق إلا بعدالة تقسيم أعباء المرحلة ومكاسبها بين جميع شرائح المجتمع. مرة ثانية نقر ونعترف بأن كل رجال الأعمال شرفاء، مع استثناء بسيط - مثل أى فئة أخرى- تنحرف عن المسار لأسباب يطول شرحها، إذن هل هذا الكلام دعوة للتأميم؟.. الإجابة: إطلاقا، فهو أمر مرفوض مذموم. إذن هى دعوة للاشتراكية؟ ..قطعا لا، فشلت الاشتراكية فى ديارها، ولم تعد خيارا مقبولا لأحد... الكلام هنا عن تحقيق العدالة فى ظل آليات السوق..أما الأهم فهو فتح نوافذ الحرية لتجديد الهواء الراكد فى الأفق السياسى، فالرأى العام لايبدو مرتاحا لتصريحات الحكومة ولايعرف إلى أين يتجه بما لديه من أسباب القلق إلا إلى الرئيس، وظهر ذلك فى خطابه الأخير الذى كان «كارت أصفر» لبعض الوزراء أوحتى الحكومة بكامل هيئتها، ربما يليه «كارت أحمر» على نحو ما قد تتكشف عنه الأيام. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن