فى مشهد من فيلم «الحناكيش» - أواسط الثمانينيات - يمتدح أحد مساعدى طاهر سليمان «كمال الشناوى» عمليات الهبر والحنكشة «الفساد» التى عاونه فيها، باعتبارها «بوابة ثراء» سهل وممتع.. مرت السنوات فلم تعد «الحنكشة» فيلما، بل واقع فى حياتنا «عينى عينك» يعانى معظم الشعب المصرى آلامها المريرة، ويحصد «الحناكيش» الكبار ثمارها المحرمة، دون حياء، تعاونهم الحكومة بتخبطها وقلة حيلتها. بالأمس القريب أعلنت حكومة محلب تأجيل قل إلغاء - الضريبة على أرباح البورصة، استجابة لضغوط الحيتان المتحكمين بالسوق، دفعوا مؤشراتها إلى تراجع متواصل، نزلت الحكومة على رغبتهم، دون تفسير مقنع: لماذا تسرعت فى فرض الضريبة ولماذا تنصلت منها. لم يكتف «الحيتان» بإغراءات وتسهيلات «قانون الاستثمار الموحد» الصادر قبيل مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي: إلغاء ضريبة ال5% على الأغنياء، والنزول بسقف ضريبة الدخل، من 25% إلى 22,5%، وإعفاء الشركات بمناطق الاستثمار العامة من بعض أحكام قانون العمل، منها تخفيف قيود فصل العمال..وأخيرا قانون تحصين العقود المبرمة بين الحكومة والمستثمر عبر قصر الحق فى الطعن عليها، على طرفى التعاقد فقط، وهو ما يراه البعض «بابا للفساد».. امتيازات بلا حصر والحبل على الجرار. تبدو شهية عمالقة البزنس شرهة لشفط مقدرات البلد واحتكارها، بلد يعانى أفدح صور الاختلال الطبقي، يرزح نحو 50% من أهله تحت خط الفقر، بينما يكشف تقرير بنك الائتمان والاستثمار السويسرى عن «الثروة فى العالم» لعام 2014، عن أن 1% فقط من أغنياء مصر يستحوذون على 48٫5% من الثروات والأصول الإنتاجية، وأن 10% منهم، يملكون 73٫3%، ديناصورات تحوز الأرض والسماء. لا ضير فى ذلك، إنما المؤسف، أن بعضهم يمارسون ضغوطا رهيبة لاستخلاص خيرات الوطن لأنفسهم، وفى حين يدفعون الدولة لإلغاء ضريبة البورصة، قدموا «مقترحا شفويا» إلى الحكومة لزيادة الضرائب على محال وعربات الفول والطعمية، خطوة يعنى مجرد التلويح بها، غيبة اللياقة والضمير، بالإضافة إلى «الخراب المستعجل»، الفول أمن قومي. لا مبالغة، فالطبقة المتوسطة تصرخ لارتفاع أسعار «البامية»، وهى الطبقة نفسها التى فوضت الرئيس السيسى واختارته، وساندته ب64 مليار جنيه لتمويل قناة السويس الجديدة، ومازالوا «سنده وظهره»، تحملوا عن طيب خاطر، قسوة الظروف وتقليل نحو 30% من الدعم. بينما خذله الموسرون، لما طالبهم ب100 مليار جنيه لصندوق «تحيا مصر»، لم يقدموا إلا النذر اليسير، ذرا للرماد فى العيون، وأحيانا يعطلون المراكب السايرة. قويت شوكتهم وأطلقوا أذرعهم للهيمنة على مفاصل الدولة، من المصانع إلى الأندية الرياضية، ومن الأحزاب السياسية والتوكيلات الدولية إلى وسائل الإعلام والفضائيات، التى تصير أحيانا منصات للغمز والقصف فى المجال السياسي، وإظهار «العين الحمرا» لمن يهمه الأمر، فضائيات تطلق على المجتمع «جيوش العرى والتفاهة»، إلا من رحم ربي. ويتكفل الإخوان بإطلاق «جيوش الموت والإرهاب».. لافرق بين هؤلاء وهؤلاء، كلاهما ينصب مزادا تباع فيه رءوس الشهداء وإمكانات الأمة، يحاول السيطرة على قرارها، يرهنه للخارج، فى ظل اختراقات ضارية وأكاذيب مرعبة تغطى على الحقائق، لماذا؟!..لأن هناك قيمة عليا مفقودة اسمها «الانتماء للوطن»..! لابد أن نقدر جهود الحكومة لدفع عجلة الاستثمار والتنمية، لكنها تخطئ بشدة، وهى تصعر خدها للغلابة، وتهينهم أحيانا (حكاية ابن الزبال)، لم تتعلم درسا من الحكومة الكرواتية التى ألغت 300 مليون دولار ديونا على 300 ألف كرواتى الأشد فقرا..لاتتحاور حكومتنا إلا مع منظمات رجال الاعمال وتهمل بقية الأطراف، تلهث للحصول على رضا المستثمرين المحليين والأجانب، لابأس، إن جاء عبر سياسات رشيدة، الخطر أن تفرز هذه السياسات مزيدا من التراجع للطبقة الوسطى النواة الصلبة لكيان المجتمع، بعد انهيارها المروع بالفساد المنهجى فى عهد مبارك، فعل شائن لايختلف عما اقترفه السلطان العثمانى سليم الأول عندما احتل مصر، يذكر ابن إياس فى «بدائع الزهور..» أن السلطان جمع العمال المهرة وأرباب الحرف وأصحاب الصناعات «أى الطبقة الوسطي» وأرسلهم إلى اسطنبول، لتنهار مصر حضاريا من دولة كبرى إلى ولاية تابعة لتركيا. ولم تسترد مكانتها إلا بعودة شرائح هذه «الطبقة» إلى سابق عهدها، بدءا من عصر محمد علي، إلى اليوم، هم من غيروا وجه «أم الدنيا» وقادت طلائعهم ثوراتها، وما عرفت من حركات نهوض اقتصادى واجتماعى وعلمى وثقافى عبر هذه الأزمنة. الآن بعد أن جرى ما جري، لايمكن الزعم بأن كل رجال الأعمال سيئون، أكثرهم شرفاء، جهودهم مثمرة- رحم الله طلعت حرب الذى أنشأ بمجهود فردى مخلص العمود الفقرى للاقتصاد المصري- «الاشتراكية» ليست خيارا مقبولا، المشكلة فى غياب المشروع الحضارى المتكامل وافتقاد سياسات تملأ الطموح الوطني، تنبثق من نظرة واعية للمشكلات المحدقة، يرى بريجينسكى مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق أن «كل قوة لابد أن تحركها رؤية، الرؤية تمنحك إدراكا لما ستئول إليه الأمور»، فهل تكون الضرائب التصاعدية و«الرأسمالية الرحيمة» حلا مقبولا فى هذا السياق، لتعود حقوق الشعب من جيوب «الحناكيش»،للنهوض بالاقتصاد، وتنظيم المجتمع على أسس من العدالة الاجتماعية، فتسترد مصر إرادتها السياسية الحرة المستقلة عن ضغوط الأصدقاء والأعداء. [email protected] لمزيد من مقالات محمد حسين أبوالحسن