إن تجديد الخطاب الدينى دون تنقية التراث وهو المنبع الذى يستمد منه هذا الخطاب عناصره، ما هو إلا إعادة تغليف أو طلاء لنفس الخطاب القديم، وقد سبق لى أن كتبت رسالة مفتوحة فى هذا الصدد إلى السيد الرئيس السيسى ونشرت فى جريدة الشروق فى يناير من العام الماضى بعنوان الخطة موجودة ومعتمدة يا سيادة الرئيس.. ولا ينقصها إلا التنفيذ. والخطة التى أعنيها هى الاستراتيجية الثقافية للعالم الاسلامى التى أقرتها القمة الاسلامية فى دورتها السادسة فى داكار فى ديسمبر عام 1991 بالاجماع وإذا كان الكتاب يقرأ من عنوانه فإن عنوان هذه الخطة خير دليل لذلك.. فالعبارة الحاكمة فيها هى: لا شىء مقدسا سوى وحى السماء.. حيث تدعو الخطة الى مراجعة التراث الاسلامى بأكمله مراجعة نقدية بلا وجل ولا محاذير ولا تابوهات ودون إضفاء هالة التقديس على هذا التراث الذى هو من صنع الانسان فى المقام الأول فلا شيء مقدسا سوى وحى السماء.. أى القرآن الكريم فقط.. وتستند الخطة أو الاستراتيجية على ركيزة أن الأمم التى لا تراجع تراثها الثقافى مراجعة نقدية لا يمكنها إحراز أى تقدم.. وتهدف هذه الخطة الثقافية إلى اجتثاث عوامل الانحطاط وتنمية عوامل التقدم من خلال مواجهة معركة المفاهيم والمعايير وتنقية التراث الاسلامى وإعادة كتابة التاريخ الاسلامى. ودعونا نرى ما تقوله هذه الوثيقة المهمة التى مر عليها ما يقرب من ربع قرن من الاهمال دعونا ننظر ما تقوله حول مفهوم التراث الاسلامى.. تقول: إن التراث هو عطاء من صنع الانسان.. سواء كان هذا التراث تراثا ماديا مثل المبانى الأثرية أو فكريا من إنتاج المبدعين والمفكرين أو اجتماعيا متمثلا من العادات والتقاليد.. وتقول الوثيقة التى أقرها رؤساء جميع الدول الاسلامية أن المصدر الأساسى للتراث الاسلامى هو القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة اللذان فجرا عطاءات علمية وفكرية وثقافية، إلا أننا ننزه تراثنا عن حصر مدلوله فى مجرد الصيانة المنظمة للآثار.. كما أننا نرفض إضفاء هالة التقديس على التراث الاسلامى بحجة أن الوحى هو الذى فجره، ذلك لأن هذا التراث ليس بوحى بل هو عمل إنسانى وأن ارتبط بالوحى، لهذا نرى أن دراسته دراسة نقدية هادفة هو أمر مفيد يندرج ضمن العناية به، فالثقافات التى لديها الجرأة على القيام بنقد ذاتى لتاريخها والاستفادة من الدروس المستخلصة من تراثها، يمكنها أن تصوغ تراثها المستقبلى بروح خلاقة لمواكبة التغيير دون التخلى عن أصالتها.. وإن الذين يستوعبون تراثهم اكتشافا ودراية ونقدا يكونون أكثر استعدادا للحفاظ على التواصل من خلال التغيير. وقد أشارت الوثيقة إلى أن التراث المقصود هو التراث المكتوب والمقروء والمرئى الذى يشمل العلوم الشرعية من تفسير وحديث وأصول وفقه وسيرة والعلوم اللغوية والأدبية والنقدية والفلسفية كعلم الكلام والتصوف.. الخ. وتؤكد الوثيقة أن من أهدافها تمكين الأمة الاسلامية من القيام بدورها الحضارى مستهدية بالصفات التى وضعها القرآن الكريم لهذه الأمة من قبيل: الأمة الشاهدة والأمة الوسط والأمة القوامة بالقسط.. كما تهدف الوثيقة الى العمل على نفى كل مظهر من المظاهر التى تتنافى مع حقوق الانسان والوقوف بحزم أمام العنصرية والطائفية والعشائرية والقبلية. لقد وضعتم يا سيادة الرئيس يدكم على لب القضية فى خطابكم فى ذكرى المولد النبوى الشريف فى العام الماضى، ولب القضية هو تنقية التراث من المدسوسات المدمرة التى دست فى هذا التراث على مر العصور واكتسبت هالة التقديس والتى تدرس فى معاهدنا الدينية حتى اليوم.. واقتراحى هو ألا نبدأ من الصفر فطالما لدينا هذه الاستراتيجية المعتمدة من قادة العالم الاسلامى والتى تم إهمالها من قبل الحكومات التى تؤثر السلامة على الاقدام على مثل هذه الخطوات الجريئة. أما الان وقد طرحتم سيادتكم الموضوع بكل قوة ووضوح وكلفتم الأزهر وشيوخه بالقيام بواجبهم وأنذرتهم بمحاجاتهم عند الله يوم القيامة، فإن الخطوة الثانية هى قيام سيادتكم باعتباركم الرئيس الحالى للقمة الاسلامية بدعوة الأمين العام لمنظمة التعاون الاسلامى والمدير العام للمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الايسيسكو)، وفضيلة الامام الأكبر شيخ الجامع الأزهر لاجتماع بالقاهرة للنظر فى تفعيل الاستراتيجية الثقافية للعالم الاسلامى خاصة فى شقها الخاص بتنقية التراث وإعادة كتابة التاريخ، وتكليف لجنة من علماء الاسلام خاصة أولئك الذين شاركوا فى وضع هذه الاستراتيجية للشروع فى دراسة التراث والتاريخ الدراسة النقدية التى أولت بها الاستراتيجية هو البؤرة المحورية لهذا العمل الجليل، علما بأن الاستراتيجية نفسها تتضمن توصية من هذا القبيل حيث تنص على إنشاء جهاز لمتابعة تنفيذها. وباعتقادى أننا بهذه الخطوة نكون قد دخلنا بالعمل الاسلامى المشترك المرحلة الجديدة التى أشارت إليها مقدمة الاستراتيجية والتى تعد بكل المقاييس فتحا جديدا فى العمل الاسلامى المشترك.. وأخيرا فإننا باعتمادنا نهج العمل الاسلامى المشترك نكون قد أشركنا معنا العالم الاسلامى كله فى تحمل مسئولية هذه الثورة الدينية الثقافية وجنبنا أنفسنا التعرض للهجمة المرتدة التى ستنطلق لا محالة من معاقل الارهاب الفكرى. لمزيد من مقالات سيد قاسم المصرى