يقولون إن التاريخ لا يعيد نفسه، وأنك لن تشرب من ماء النهر مرتين لأن الماء يجرى ، قد يكون هذا صحيحاً عندهم، فالتاريخ لا يعيد نفسه فى أوروبا، وماء النهر سيجرى فقط فى إثيوبيا، أما عندنا؛ فالتاريخ بهلوان أٌلّعُوبَان، يغير أثوابه ومساحيق وألوان وجهه، ولكنه هو هو، يعيد نفسه ألف مرة، ونحن نصفق له مائة الف مرة، تاريخنا جامد ثابت، ونهرنا راكد آسن عفن، نشرب من نفس الماء مليون مرة. فلو حاول أحدنا أن يدير رأسه دورة كاملة؛ سيجد حوله عراقاً تعبث به العمائم السوداء والبيضاء والخضراء وقبعات رعاة البقر، وسوريا رهينة بين طموحات القيصر ومراهقات السلطان، ولبنان طفل مشلول تدوسه أقدام الأعمام والأخوال، وفلسطين جرح تقيح وتوقف عن النزيف، واليمن خرجت خناجرها من أحزمتها، ولن تعود إلا بعد أن ترتوى من دماء الأشقاء، والسودان أصبح سودانين والنخاس ينادى من يزيد، وليبيا ستغنى مع بوعباب «ست سنين و12 شهر عن الشعب ما جانى خبر»، وتونس ومصر والجزائر تتقلب بين الخوف والأمل، والسعودية تبكى مليكها أبا متعب وأميرها سعود الفيصل، وجامعة الدول العربية عجوز شمطاء يفر منها الخُطَّابِ العرسان، وتفقد الأمل فى الإنجاب؛ بعد أن صارت عقيماً. وسط هذا المشهد المأساوى يطل علينا الشاعر المملوكي: على بن سودون الجركسى اليشبغاوى القاهري،«ولد فى القاهرة عام 810 ه/1407 م، وتوفى فى دمشق عام 868 ه/1463 م» ، كتب بالعامية المصرية والعربية الفصحى،له ديوان شعر عنوانه «نزهة النفوس ومضحك العَبُوس»، إبن سودون هذا هو من يقود العالم العربى فكراً، وسياسة، وثقافة؛ هو من يحدد مفردات الخطاب الدينى فى العالم العربي، ويكتب الخطب العصماء لأئمة المساجد، ومقالات المثقفين، واطروحات المفكرين، وتحليلات السياسيين، هو من يضع مناهج التعليم والتثقيف، ويؤلف الأغاني، ويكتب سيناريو الأفلام والمسلسلات، أبن سودون نجح فى تسريب جيناته إلى كل أرحام الوطن العربي، وصار الجميع أبناءه وأحفاده، وهو لا يزال حياً خالداً متغلغلاً فى الدماء، مبثوثاً فى تربة الأرض، أوكسجيناً فى الهواء، لا نستطيع أن نعيش بدونه. لإبن سودون نظرية عبقرية تعرفها إذا ما قرأت شعره، وتراها واقعاً فى كل من حولك، وفى كل ما تقرأ، أو تسمع فى الفضائيات ليل نهار، يقدم لنا إبن سودون نظريته فى أبيات من الشعر تقول: إذا الفتى فى الناس بالعقل قد سما.. تيقن أن الأرضَ من فوقِها السما وأن السما من تحتها الأرضُ لم تزل.. وبينهما أشيا إذا ظهرت تُرَى وإنى سأبدى بعض ما قد علمتُه.. ليُعْلمَ أنى من ذوى العلم والحجَى فمن ذاك أن الناس من نسل آدم.. ومنهم أبو سودون أيضًا ولو قضى وأن أبى زوجٌ لأمى، وأننى.. أنا ابنهما، والناس هم يعرفون ذا ولكن أولادى أنا لهمُ أبٌ وأمهم لى زوجةٌ يا أولى النُّهَى ومن قد رأى شيئًا بعينيه يقظةً فذاك لهذا الشيء يقظان قد رأى وكم عجب عندى بمصر وغيرها ..فمصر بها نيلٌ على الطين قد جرى بها الفجر قبل الشمس يظهر دائما.. بها الظهر قبل العصر قيلاً بلا مِرا بها النجم حال الغيم يخفى ضياؤه ..بها الشمس حال الصحو يبدو لها ضيا من حق إبن سودون إذن أن يفخر بعلمه، ويتنازل ويستعرض علينا بعضه؛ لنعلم أنه من أصحاب العقول الراسخة، فيضع صياغة لغوية رائعة، ولكنها بدون معنى، بدون فكرة، كل ما فيها تكرار لبدهيات الواقع التى لا يختلف حولها اثنانة أليس هذا هو كل ما ينتجه العقل العربى المعاصر فى جميع المجالات، وعلى جميع المستويات، ومن جميع الأطراف، هل سمعت أيها القارئ الكريم فى خطب الوعاظ ودروسهم على الفضائيات، أو خطابات السياسة غير ذلك؟..هل طالعتك الفضائيات بغير هذه العقول الفذة التى تحمل شهادات الدكتواره، وألقاب المفكر والخبير والمحللة الخ؟. ويزيدك إبن سودون علما ومعرفة فيقول: الأرض أرضٌ والسماء سماءُ.. والماء ماءٌ والهواء هواءُ والروض روضٌ زينته غصونُه.. والدوح دالٌ ثم واوٌ حاء والبحر بحرٌُ والجبال رواسخٌ.. والنور نورٌ والظلام عماءُ والحر ضد البرد قولٌ صادق..ٌ والصيف صيفٌ والشتاء شتاءُ والمسك عطرٌ والجمال محببٌ.. وجميع أشياء الورى أشياءُ والمرُّ مرٌّ والحلاوة حلوة والنار قيل بأنها حمراءُ والمشى صعب والركوب نزاهةٌ.. والنوم فيه راحة وهناءُ. إبن سودون كان شاعراً وأديباً وملماً بعلوم الفقه والتاريخ، وقد ساهم فى إنشاء مسرح خيال الظل بعد ابن دانيال فى دمشق، وشعره هذا ليس عبثيا، وإنما ينم عن فلسفة عميقة لواقع يوشك على التحلل والانهيار، فقد عاش فى أواخر دولة المماليك، وتوفى قبل سقوطها بنصف قرن فقط، لذلك يمثل شعره هذا حالة من الرفض الإجتماعى والسياسى لواقع عديم المعنى مأزوم. أما فى واقعنا العربى الآن فقد أصبحت هذه العبثية هى جوهر الوجود العربى المعاصر، وأصبحت حالة إبن سودون الثائرة على الواقع، الرافضة له؛ هى حالة معظم مفكرينا وكتابنا؛ خصوصاً أولئك الذين يحتلون مواقع الصدارة فى المشهد الثقافى العربي، ولكنهم ليسوا ثائرين على الواقع، أو رافضين له مثل إبن سودون، بل على العكس؛ هم يؤسسون العبثية، ويحتفون بها، ويرسخون قواعدها، ويرتزقون منها وبها، ويحافظون عليها، بل والأدهى من ذلك يقنعوننا أنها عين الإبداع، وقمة التحضر والتقدم ، لذلك أخاف أن أقول إننا على وشك السقوط والانهيار، وأن سرعة العصر ستحول نصف قرن دولة المماليك إلى نصف عقد، أى تجعل الخمسين سنة التى أخذتها دولة المماليك لكى تسقط تحت سنابك خيل السلطان العثمانى فى مرجع دابق شمالى حلب الشهباء، إلى خمس سنين فقط نسقط فيها تحت حوافر حمير السلطان العثمانى والشاه الصفوى والإمبراطور الإثيوبى وملك أورشليم. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف