بينما تتنوع دعوات تجديد الخطاب الدينى تارة، والثقافى تارة أخري، فلا تعدو كونها أكثر من رطان لا يحمل حضورا متعينا فى متن المشهد المصري، تتوالى فى الآن نفسه دعوات الحسبة الدينية فى ثوبها الجديد، وتطال كتابا ومثقفين متنوعين، مهما اتفقت أو اختلفت مع آراء بعضهم، فإن الحريات الفكرية وفى المتن منها حرية الرأى والتعبير تعد حقا إنسانيا وإبداعيا أصيلا، لا يجب المساس به، وإلا أصبحنا أمام محاكم تفتيش جديدة من جهة، ومصادرة للحرية من جهة ثانية، فالرأى إنما يقابله الرأي، والحجة تقارعها الحجة، والبيان يكافئه البيان، وإلا فإننا نتجه صوب إعادة اجترار الماضى بعيده وقريبه، ونحن جميعنا قد هرمنا من إعادة اختراع العجلة، ومعرفة أن التاريخ يتجه فى حركته صوب الأمام. لقد كشفت الثورة المصرية المجيدة فى يناير 2011، عن عالمين متناقضين أحدهما قديم رجعي، سكنته التيارت الإسلامية التى اختطفت الثورة، وتحالفت مع كل البنى القديمة فى المجتمع المصرى من جهة، وتواطأت مع قوى الاستعمار الجديد من جهة ثانية، وبدت التفاهمات الإخوانية- الأمريكية دليلا دامغا على عصابات انتهازية من الرجعية المتحالفة مع كهنة الرأسمالية المتوحشة فى العالم الجديد، وأصبحت الأمة المصرية ومؤسساتها الوطنية فى مرمى الخطر حقا، جراء خيانة القوى الإسلامية للثورة وللدولة معا، وبات كل شيء على المحك، وأصبحت الثورة الشعبية العارمة فى الخامس والعشرين من يناير محلا للصراع الفعلى بين قوى دينية ماضوية توظفها قوى الهيمنة فى العالم لتفكيك وطنها وبنياته الأساسية، ومعها نفر من أذناب العولمة الأمريكية وممولى بعض الجماعات الحقوقية من تيارات متعددة، بعضها للأسف كان محسوبا على القوى الوطنية الديمقراطية، وهؤلاء جميعهم ممن يسوغون خطابات الدمج والاستيعاب والمصالحة مع القتلة الإرهابيين الآن، وهم الذين صدعوا رءوسنا من قبل، وذهب بعضهم لتأييد المعزول دون أن يفكروا للحظة فى المصير المأسوى الذى ينتظر مجتمعا يعج بالتنوع والاختلاف والتعدد فى ظل حكم جماعة فاشية ترتبط بفكرة أممية خادعة، وبأوهام الخلافة الميتافيزيقية،. أما العالم الثانى الذى كشفت عنه الثورة المصرية بنصاعة شديدة وأمل ملهم فقد تمثل فى وعى جديد يتشكل فى رحم الأمة المصرية، وعى مركب يتجاوز من خلاله المصريون الوعى الغض الذى لازم ناسنا وجماهير شعبنا بفعل التجريف السياسى والثقافى طيلة الأربعين عاما الماضية، حتى بدا المجموع بفطريته وحسه الوطنى العارم أكثر حرصا على ثورته، وأسبق من كثير من نخبته التى لوثتها التمويلات والمشاحنات الفارغة، وانفصالها الفعلى عن راهن الناس وحيواتهم، وتحالفاتها غير المفهومة مع القوى الظلامية حينا، والقوى المزايدة حينا آخر، والسلطة حينا ثالثا، وبدا الناس مؤمنين بحتمية استعادة الدولة المصرية ذاتها أكثر من إيمانهم بأى شيء آخر، فكانت ثورة الثلاثين من يونيو المجيدة ، التى سعت إلى حماية الهوية الوطنية الحضارية للأمة المصرية من جور الجماعات الفاشية الظلامية من جهة، واستعادة الثورة ذاتها بعد أن اختطفتها الغربان، وحملتها إلى عوالم تنتمى لقرون بعيدة تخاصم المستقبل، وتعادى اللحظة الراهنة من جهة ثانية. ثمة صراع الآن على المستقبل، تتشارك فيه قوى متعددة، بعضها ينتمى للنظام البائد بقمعه، وبثقافته الكرنفالية البليدة، وخياله القديم، وبعضها ينتمى إلى القوى الظلامية الدموية القابعة فى أسفل قعر التاريخ، وهذان الفصيلان يشوهان كل ما حدث من تضحيات ودماء منذ أول شهيد فى الثورة المصرية فى يناير 2011 وحتى آخر جندى باسل سقط ضحية لإرهاب الإخوان وحلفائهم من التنظيمات الإرهابية المتطرفة.وكلا الفصيلين المشار إليهما يملك ترسانة من المتثاقفين المدججين بغطاءات نطرية فارغة، تحوى خطابا إنشائيا انفعاليا فى جوهره، ويضاف إليهما فصيل يرفع راية الثورة بيد، بينما يغتال باليد الأخرى كل شيء، الوطن وأحلامه وناسه، وتجده فى آخر المطاف واقعا فى حجر الجماعات الدينية رغم رطانه الليبرالى أحيانا، وهذا الفصيل ارتباطه بالسيد الأمريكى أكثر من ارتباطه بأى شيء آخر. يتشارك الكل صراعا على المستقبل إذن فى ظل تآكل حقيقى للنخبة المصرية، وانحسار القوة الناعمة، وتراجعها أمام مراكز إنتاج الثقافة العربية المختلفة، لكن يتبقى سياق يمثله البعض، يبدو صوته خافتا فى ظل حالة الجدل الصاخبة، والعراك اليومى حول معارك تجاوزها الزمن، يؤمن بناسه وجماهير شعبه، ويقف فى خندق الدولة الوطنية لا الأنظمة المتعاقبة، يدافع بإيمان حقيقى عن قيم التقدم والاستنارة والإبداع، تبدو أمامه غايات الثورة واضحة وجلية، حيث العيش والحرية والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان، لكنها لن تتحقق أبدا عبر تفكيك الدولة المصرية أو مؤسساتها الوطنية، أو استدعاء الاستعمار من جديد، أو التحالف مع التيارات الإرهابية، أو المزايدة على الدولة المصرية وكيل الاتهامات صباح مساء، ثم جنى المكاسب عبر التغلغل فى الهيئات والمؤسسات المختلفة، ومن ثم قد تجد أشباه مناضلين ومتثاقفين لا يستطيعون توجيه أى نقد مثلا لمسئول فى موقع يستفيدون من عطاياه؛ لأن ذلك قد يمس مصالحهم على نحو مباشر!، هذه الازدواجية أسهمت فى مزيد من التكريس لصورة سلبية عن المثقف فى لحظتنا الراهنة. وبعد.. على الدولة المصرية فى ظل حالة عارمة من الصراع على المستقبل أن تدرك أن الغد المنشود لن يتحقق إلا بمزيد من الحرية، وأن صناعة العقل العام بحاجة ملحة إلى تجديد أدواتها، وتفعيل فكرة المراجعة النقدية المستمرة، فالخيال القديم لن ينتج شيئا، ولن يوقف زحف التطرف المسكون بجهل مقدس لن يبقى ولن يذر. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله