هنا في قلب حي الجمالية, خان أبو طاقية بحارة البرقوقية وتحديدا في شارع الخرنفش الممتد من شارع بورسعيد وحتي شارع المعز, تخفي العمارات القديمة المتلاصقة العشرات من ورش الفضة والذهب. والنحاس لإنتاج الحلي والنياشين والميداليات والكثير من المشغولات المعدنية والهدايا التذكارية. فن أصيل وأصابع ماهرة تحفرعلي النحاس والمعادن الأخري تحفا فنية دقيقة الصنع تبهر زوار منطقة الحسين وخان الخليلي, لكن يبقي صناعها يعانون الإهمال وقسوة ظروف العمل.عمالة يدوية لا تهدد بالإضراب أوالاعتصام ولكن هذه المرة بالإندثار. داخل العمارات العتيقة وفي غرف تعاني جدرانها تشققات الزمن وتكاد من ضيق مساحاتها وشدة حرارتها تلفظ من فيها, ينكب عم سميروأحمد وصامويل وسميرة كل منهم علي عمله, ليؤدي دوره بسرعة وتمكن في دورة إنتاج الميداليات والنياشين من النحاس. ساعات طويلة من العمل تبدأ من العاشرة صباحا وتستمر حتي الثامنة مساء في ظل حرارة جو الصيف ولهيب حرارة الأفران والمواد الكيماوية المستخدمة في غرف تكاد تفتقد كل عناصر التهوية وكأنهم في عالم مختلف ومعزول عن الحياة خارجه. وما بين تثبيت التصميم وحفره, والزنكوغراف وعمل الإصطمبة وتقطيع المعدن حول الرسمة والتلوين والتقفيل حتي تخرج القطعة في شكلها النهائي, يبدو كل منهم ترسا في دورة العمل ولكن أيضا في آلة المعاناة. أحمد السيد, العامل الثلاثيني يشرح تفاصيل الصورة موضحا أن حال العمالة اليدوية يزداد سوءا يوما بعد يوم. الحرف اليدوية التراثية أصبحت مهملة وبالتالي من يعملون بها. ويرصد ملامح ظروف العمل القاسية التي ازدادت وطئتها بعد الثورة بسبب الإنفلات الأمني وتراجع السياحة وتردي الوضع الاقتصادي. قائلا انتظرنا شهورا طويلة دون عمل حتي أتت بعض الطلبيات, لتدب الحياة في الورشة من جديد لكن قفزات أسعار الخامات ومنافسة المنتج الصيني يهدد كل يوم لقمة عيشنا. فالصيني يستخدم خامات لا تعيش طويلا مثل الألتامونيا لأنها أرخص كثيرا من النحاس, فقطعة النحاس التي تتكلف أربعة جنيهات تكلف الصينيين75 قرشا. أحمد ومحمد عبد الهادي وأيمن, شباب نشأوا في ربوع المكان وتشربوا صنعته منذ الصغر لكنهم يخشون اليوم اندثار المهنة وفقدان مصدر الرزق. فالمستوردون يأخذون التصميمات اليدوية التراثية ويذهبون بها للصين ويعودون بآلاف القطع المقلدة علي المكان بأسعار أرخص كثيرا, في حين لا ينشغل أحد بحماية الحرف التراثية والصانع المصري. ويتساءل أحمد إذا كان موظفو القطاع العام يعتصمون مطالبين بحقوقهم من الدولة فمن نطالب نحن؟ كتر خيرهم أصحاب الورش, يتحملوننا ويصرفون أجورنا رغم حالة الكساد, نفسنا حد يسمع صوتنا, أو يشرح لنا كيف يمكن أن نعول أسرنا في ظل أسعار يزداد لهيبها كل يوم وأزمات مختلفة في حين تعاني مهنتنا الإهمال الشديد؟. أسئلة كثيرة تنتظر الإجابات في عالم صناع الحرف اليدوية والتراثية والذي بدأ يفقد الكثير من بريقه. ثلاثة أرباع الورش أغلقت أبوابها في حين تحول بعضها إلي محلات بقالة و اتجه آخرون إلي بيع الذهب الصيني وأحجار الزجاج بدلا من الذهب والأحجار الكريمة, أما العمالة, فلا يخفي الكثير منهم, مثل أحمد استعداده لترك الصنعة في حالة توافر عمل آخر مستقر علشان أربي عيالي. تردي الأوضاع وانحسار للمهنة يحزن عم سمير, الذي يبدو بأصابعه السحرية وهيئته قطعة من المكان العتيق. فالرجل الذي حفرت السنوات وحرارة المكان وقسوة ظروف العمل معالمها علي وجهه خلال أكثر من خمسين سنة, مازال يمارس بعشق حرفة الزنكوغراف التي تعلمها منذ زمن طويل علي يد الأرمن المقيمين في مصر. ويقول دون أن يتوقف عن علاج قطع النحاس بالغرة والماكرومات والنشادر علي النار, لكي يطبع عليه, الصانع اليدوي كان ملكا متوجا في الماضي أيام عبد الناصر والسادات لكن منذ أيام حرب الخليج وتراجع السياحة والمهنة في تراجع. تراث يندثر.. وعمالة تستغيث أما اليوم فرغم مهارة الصانع المصري وجودة منتجة فالصيني ينافس بشده بس إحنا شغلنا خاماته أفضل وبتعيش. سنوات العمر لم تفقد عم سمير حماسه لمهنته ولا اصراره علي مواصلتها رغم تخرج أبنائه الثلاثة من كليات الآداب والهندسة واستقلال كل منهم بحياته. لكنه يري أن الصانع اليوم يجب أن يتحلي بصبر أيوب لكي يتحمل ظروف العمل القاسية. صبر تتجلي ملامحه علي وجوه الصناع من ورشة إلي أخري وفي غرفة التلوين, تقضي مني وسميرة أيامهن بين الريش والسبرتو والتنر وألوان الدوكو والمينا, تتحملن تأثير الكيماويات علي أيديهن وحرارة الأفران من أجل تلوين النياشين والميداليات التذكارية للهيئات والمؤسسات المختلفة التي ربما يكون من بينها وزارة الصحة, التي يحرمن في غالب الأحيان من العلاج المجاني في مستشفياتها رغم حصولهن علي بطاقة للتأمين الصحي. مشكلات كثيرة وأجواء قاسية يعاني منها العمال ولا يساندهم سوي روح التكافل والتضامن فيما بينهم لكن الأعباء كثيرة وثقيلة. الإهمال وتردي الأحوال هما السبب في فرار الكثير من العمالة إلي الخارج في حين مازال البعض يقاوم حبا في المهنة وحفاظا علي التراث مثل عم عبده, الذي يبدو في غرفة الورشة العتيقة جزءا من تراث القاهرة الفاطمية وعبقها. وبصبر ومثابرة يقضي ساعات طويلة في تقفيل آلاف النياشين وإعدادها في شكلها الجمالي النهائي. ورغم ضيق المكان وحرمانه من أي مصدر للتهوية ومن ضوء النهار وعزلته عن حياة الشارع وكأنه قاعة حجز في أحد الأقسام, إلا ان الرجل العاشق لمهنته يحمد الله علي الستر قائلا: إحنا أحسن من غيرنا.