عقول قليلة تلك التي تستطيع أن تجمع بين صرامة الهندسة ومراوغة اللغة والثقافة. د. نبيل علي فعل ذلك بسلاسة عجيبة, بل وتبقي من عقله الجبار ما يكفيه أن يتمتع بروح خفيفة الظل وشخصية عالم لا تفارق البسمة وجهه الذي يجبر كل من يراه أن يحترمه حتي وإن كان لا يعرفه شخصيا. ومن عرفه عن قرب يعرف تماما أنه عندما يتحدث د. نبيل فعلي الجميع أن يسمع, فهو دائما عنده القدرة علي أن يجمع الظواهر الثقافية التي نراها متفرقة في رؤية واحدة للمستقبل. د. نبيل علي بدأ حياته مهندسا للطيران في القوات الجوية المصرية, ثم مديرا لمعالجة المعلومات في شركة مصر للطيران حيث أنشأ أول نظام للحجز الآلي في المنطقة العربية.. ورحل عن عالمنا مهندسا وعاشقا للغة العربية وثقافتها.. وبينهما رحلة إنجاز وعطاء وإسهام وحب للغة العربية وثقافتها علي طريقته. فهو من صمم أول محرك بحث للغة العربية علي أساس صرفي يدرك خصوصية تركيب الكلمات في اللغة العربية, وأول من صمم قاعدة بيانات معجمية للغة العربية, وهو صاحب واحد من أوائل برامج الإعراب الآلي للغة العربية, وهو أيضا صاحب أكثر من برنامج للبحث الذكي في القرآن الكريم والأحاديث النبوية خصوصا والنصوص العربية عموما, وهو أيضا صاحب واحد من أدق برامج التشكيل الآلي للنص العربي. من يعملون في مجال المعالجة الآلية للغة العربية يعرفون تماما صعوبة التعامل الآلي مع هذه المستويات المختلفة للغة العربية, ومن يعرفون النحو والصرف العربيين علي الأقل من الكتب الدراسية يعرفون صعوبة إعراب الجمل في اللغة العربية وتحليل كلماتها صرفيا حتي علي البشر. هذه البرامج كانت بذرة ثورة في المعالجة الآلية للغة العربية. هذه النظم الآلية كما يقول د. نبيل علي تفرض علي موضوع معالجة اللغة انضباطا واكتمالا يتعذر بدونهما إخضاعها لمنطق الآلة وحسمها القاطع. د. نبيل علي هو صاحب اللغة العربية والحاسوب-1988- أول كتاب في المكتبة العربية يقدم منظومة علمية مكتملة تراعي هذا الانضباط وهذا المنطق وحسمه القاطع, لكي تتكلم تلك الآلة الغربية والغريبة في وقتها اللغة العربية وأن تفهمها, وأيضا أول كتاب يحاول أن يصالح بين نظريات اللغة والتطبيقات العملية. ولفت الكتاب نظر الباحثين أن هناك قصورا في الدراسات اللغوية العربية التي تراعي معايير الانضباط الآلي والمنطقي. ما قدمه د. نبيل في كتبه هو رؤية مؤداها أنه بالرغم من أن اللغة عموما مخلوق مراوغ لقوانين الهندسة والآلة, وبالرغم من أن اللغة العربية علي وجه الخصوص أكثر مراوغة وأن بها من الجمال ما تتدلل به علي المعالجة الآلية. إلا أن معالجتها آليا أمر ممكن بشرط توافر دراسات علمية لهذه اللغة تقدم مخرجات ونتائج علي درجة من الدقة والوضوح يضاهي مثيلاتها في مجال العلوم الطبيعية. وقد قدم الكتاب نموذجا لذلك, وأصبح دليلا لدراسات كثيرة تالية تسير علي نفس منواله. د. نبيل علي هو أيضا صاحب العرب وعصر المعلومات1994 حيث المعلومات هي الحل لكثير من المشكلات الثقافية في العالم العربي, وحيث المعلومات أخطر من أن تترك للمهندسين فقط وأنها لابد أن تكون بالأساس أيضا شغلا شاغلا للباحثين في مجال العلوم الإنسانية, فالقضية سياسية اجتماعية ثقافية في المقام الأول. وأكد د. نبيل من خلال هذا الكتاب علي ضرورة التعاون الإيجابي والبناء بين الباحثين في هذه المجالات التي يراها الكثيرون متنافرة, من أجل توطين تكنولوجيا المعلومات هذا الوافد الجديد في وقتها في التربة العربية. قابلت د. نبيل علي لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاما في بيت أستاذتي د. سلوي بهجت عندما كنت معيدا في كلية الألسن. يومها سمعته يتحدث بحماس غامر وحب واضح عن مشروع كان يعمل فيه وقتها للمعالجة الآلية للغة العربية. ما قاله بدا لي مزيجا سحريا بين كثير من المفاهيم الهندسية التي لا أعلم عنها الكثير والمفاهيم اللغوية التي هي مجال تخصصي. وعرفت منه أنها مجال جديد نسبيا إسمه هندسة اللغة, وسألني هل تحب أن تكون في فريق العمل.. وكان.. وجعلني أعشق هذا التحدي اللذيذ في المعالجة الآلية للغة عموما والعربية بجمالها ومراوغتها علي وجه الخصوص..واقترح أن نتلاقي3 مرات أسبوعيا في بيته نتناقش فيها في النظريات اللغوية الحديثة وكيفية تطويعها للتعامل الآلي مع قضايا اللغة العربية.. قال لي أن يومه يبدأ من الخامسة صباحا فلماذا لا نلتقي في السادسة لساعتين.. وكان. وخلال هذه الساعات تعلمت منه عن اللغة العربية أضعاف ما تعلمته قراءة وتعليما ودراسة, وأهم من كل ذلك تعلمت منه أن تكون هناك رؤية للبحث العلمي وأن يتم تطبيق هذه الرؤية من خلال منظومة ثقافية عامة, واضحة وواقعية وقابلة للتطبيق في المقام الأول.. واستمرت هذه اللقاءات لسنوات ولم تتوقف إلا لسفري في بعثة إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية للحصول علي الدكتوراة في مجال هندسة اللغة, الذي كان د. نبيل أول من شجعني لدراسته والتخصص فيه.. وكان. وداعا استاذي العزيز!