فى الثانى من نوفمبر من عام 2001، أعلن اليونسكو وثيقة عنوانها« الإعلان العالمى للتنوع الثقافى». وقد أبرمت هذه الوثيقة إثر أحداث 11 سبتمبر من ذلك العام وجاء فيها أن حوار الثقافات هو أفضل ضمان للسلام، وبالتالى تكون نظرية حتمية تصادم الحضارات مرفوضة لأن الإرث المشترك بين بنى البشر وضرورته مماثلة لضرورة التنوع البيولوجى فى الطبيعة، ومن ثم فالدفاع عنه أمر أخلاقى لأنه يقف ضد الأصوليات الدينية التى ترفض إعمال العقل فى النص الدينى كما ترفض النظريات العلمية المتناقضة مع حرفية النص الدينى. وفى هذا السياق يمكن القول إن التنوع الثقافى فى إمكانه أن يكون دافعاً إلى الابداع الذى هو أساس نشأة الحضارة الانسانية وتطورها، بل هو أساس أمنها وسلامها. والمفارقة هنا أن ارهاب 11/9 لم يكن ارهاباً لحظياً بل كان نقطة بداية لإرهاب متواصل من أجل أن يكون مدمراً لظاهرة الكوكبية التى كان صعودها مواكباً مع بداية الارهاب، ومن ثم يتوارى الأمن والسلام ويكون البديل تحكم الارهابيين فى إعادة مسار الحضارة إلى ما قبل نشأتها. وتأسيساً على هذه المفارقة عقدت منظمة اليونسكو ندوة فى مايو من عام 2007 دعت إليها عشرة من قادة الفكر، وكنت واحداً من هؤلاء لإعادة النظر فى المفاهيم التى انطوت عليها وثيقة « الاعلان العالمى للتنوع الثقافى». والسؤال اذن: هل إعادة النظر فى المفاهيم محكومة بقواعد المنطق أم بقواعد اللغة؟ الجواب الشائع هو القول بأن ضبط الفكر مرهون بضبط اللغة. والرأى عندى على الضد من ذلك، بمعنى أن ضبط اللغة مرهون بضبط الفكر. فإذا كان الفكر واضحاً فألفاظ اللغة واضحة. وقد دارت مناظرة حول هذه المسألة بين أبى سعيد السيرافى ( مات 979م) المشهور بأنه شارح كتاب سيبوبه وبين أبى بشر متى بن يونس ( مات 940 م) المترجم للتراث اليونانى أو بالأدق للتراث الأجنبى. وكان السيرافى قد ارتأى أنه إذا كان الفيلسوف اليونانى أرسطو قد أسس المنطق على لغة أهل اليونان فليس من اللازم أن ينظر العرب فيه ويتخذوه حَكماً لهم وعليهم. وكان رد أبى بشر بأن معانى المنطق واردة لدى جميع بنى البشر. وعندما يئس السيرافى من قدرة أبى بشر على الفهم قال: النحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة. وأنا أظن أن إيثار النحو على المنطق عند السيرافى مردود إلى رؤية النحويين إلى المنطق على أنه مدخل إلى الأجنبى، والأجنبىشر، ومن ثم فالمنطق شر. ولهذا قيل « مَنْ تمنطق تزندق». ومن هنا تأتى الأهمية التاريخية لتلك المناظرة إذ هى يمكن أن تكون تفسيراً لرفض العالم الاسلامى للغرب برمته باعتباره أجنبياً، وبالتالى لرفض التنوع الثقافى ومحاولة تدميره بالارهاب من غير إعمال العقل. والسؤال بعد ذلك: ما العمل؟ الحفر فى الجذور حتى نكتشف بداية المسار الأصولى فى العالم الاسلامى؟ أظن أن بدايته مردودة إلى اللحظة التى كُفر فيها ابن رشد وأُحرقت مؤلفاته. وهذه اللحظة واردة عندما دعا إلى « التأويل»، أى إلى إعمال العقل فى النص الدينى، وإلى « منع تكفير المؤول»، ومن ثم إلى « مشروعية الخروج على الاجماع لأن دعوته تعنى ضمنياً الانفتاح على « الآخر المرفوض» كما تعنى الخروج على الاجماع وقبول التنوع الثقافى. والسؤال اذن: هل فى الامكان إعادة صياغة الاعلان العالمى؟ جوابى بالايجاب فى ضوء ظاهرة الكوكبية، ومن ثم يأتى الاعلان على النحو الآتى:« الاعلان العالمى لكوكبية التنوع الثقافى»، وتأتى البنود بعد ذلك متسقة فى إطار العلاقة بين الكوكبية والتنوع الثقافى. والسؤال بعد ذلك: لماذا هذه العلاقة دون غيرها؟ الجواب يلزمنا بالكشف عن طبيعة الكوكبية. والرأى عندى أن الكوكبية هى المكون الثانى من رباعية القرن الحادى والعشرين وهى على النحو الآتى: الكونية والكوكبية والاعتماد المتبادل والابداع. الكونية تعنى إمكان تكوين رؤية علمية عن الكون استناداً إلى الثورة العلمية والتكنولوجية. فقد أصبح من الممكن أن يرى الانسان الكون من خلال الكون ذاته وذلك بفضل غزو الفضاء، وكان من قبل ذلك يرى الكون من خلال الأرض على نحو ما فعله كل من نيوتن وأينشتين. والكوكبية لازمة من الكونية حيث يمكن رؤية كوكب الأرض من خلال الكون فتبدو وكأنها وحدة بلا تقسيمات. والاعتماد المتبادل لازم من الكوكبية حيث تمتنع الفواصل والحدود، وعندئذ تدخل الدول والشعوب فى اعتماد متبادل ينتفى معه الشعار الشائع « الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، ومن ثم لا يكون التفكير التقليدى صالحاً. ومن هنا ضرورة الابداع للكشف عن حلول جديدة. ومن هنا أيضا يمكن الجواب عن السؤال المثار: لماذا تكون العلاقة ضرورية بين التنوع الثقافى والكوكبية؟ لأن الكوكبية تمتنع معها الأصولية التى ترفض التنوع الثقافى بدعوى أنها هى وحدها التى تملك الحقيقة المطلقة. وحيث إن الحقيقة المطلقة واحدة فلا تنوع وبالتالى لا ابداع لأن الابداع يستلزم التفكير الناقد، وهذا بدوره كفيل بهز الاعتقاد فى حقيقة مطلقة واحدة، وبالتالى بهز الأصولية وما يلزم عنها من ارهاب. واللافت للانتباه هنا أن كلا من ديباجة الاعلان وبنوده الاثنى عشر تأتى خالية من مصطلح الأصولية وهى تتحدث عن تحدى الكوكبية للتنوع الثقافى، إذ لا يكفى القول إن فيضان المعلومات الجديدة وتكنولوجيا الاتصالات يشكل تحدياً، كما لا يكفى القول بأن الكوكبية توجد مناخاً لتجديد الحوار بين الثقافات والحضارات. فالتحدى الحقيقى الذى يواجه التنوع الثقافى فى ضوء الكوكبية هو الأصوليات الدينية وفى مقدمتها الأصولية الاسلامية وما ترتب عليها من ارهاب كوكبى. ومن هنا يلزم إعادة النظر فى الاعلان العالمى للتنوع الثقافى. لمزيد من مقالات مراد وهبة