وسط مظاهر حفاوة كبيرة، قام الرئيس الصينى شى جين بينج بأول زيارة رسمية له إلى مصر منذ توليه السلطة قبل ثلاثة أعوام، فى إطار جولة بمنطقة الشرق الأوسط شملت المملكة العربية السعودية وامتدت لإيران. وخلال هذه الزيارة المهمة، قام الرئيس الصينى بالذهاب إلى البرلمان لتهنئة الشعب المصري، من خلال ممثليه، على استكمال مؤسسات الدولة وبنيانها التشريعي، كما حضر الرئيس جين بينج أيضا مع الرئيس عبد الفتاح السيسى حفل افتتاح عام الثقافة الصيني- المصرى فى 2016 بمعبد الأقصر. وأسفرت هذه الزيارة الناجحة عن اتفاق الرئيس السيسى ونظيره الصينى على توسيع نطاق التعاون بين الدولتين من خلال الربط بين الخطط التنموية الطموح لمصر وبين مبادرة «حزام واحد وطريق واحد» (الحزام الاقتصادى لطريق الحرير، وطريق الحرير البحرى للقرن ال 21)، سواء فيما يتعلق بالمشروعات القومية المهمة، وعلى رأسها تطوير وتنمية محور قناة السويس، أو فيما يتعلق بغير ذلك من المشروعات التى يتفق الجانبان على جدواها الاقتصادية، مثل مشروعات الكهرباء والطاقة الجديدة والمتجددة والنقل والسكك الحديدية، والطرق والموانئ، والزراعة والتصنيع الزراعى واستصلاح الأراضى والثروة السمكية والصناعات الإلكترونية والكهربائية وغيرها من المشروعات التى سيتم الاتفاق عليها، مع تأكيد الجانب الصينى استعداده لتمويل هذه المشروعات من خلال مختلف آليات التمويل الصينية، وفى حدود استطاعته. نقلة نوعية وقد كشفت زيارة الرئيس جين بينج إلى مصر عن حدوث نقلة نوعية مهمة فى تطور العلاقات المصرية الصينية على أكثر من مستوى، لعل من أبرزها المستويات الخمسة التالية: أولا، أن بكين لن تبقى فى موقف المتفرج على ما يجرى فى منطقة الشرق الأوسط، وأنها ستكون رقما مهما فى المعادلات المستقبلية لتوازن القوى فى المنطقة، بالتعاون مع مصر، من أجل تحقيق السلام والتنمية. فالمصالح الصينية سواء الأمنية (المتمثلة فى إمكانية امتداد الأذرع الاخطبوطية لتنظيم داعش الإرهابى لأراضيها أو على الأقل لدول الجوار القريبة منها) أو الاقتصادية (المتمثلة فى تهديد مصالحها التجارية والاستثمارية الضخمة فى المنطقة) أصبحت تواجه تهديدات كبيرة نتيجة استمرار الفوضى وعدم الاستقرار فى دول الشرق الأوسط. وفى هذا الإطار، كشفت الزيارة أن بكين، وهى توجه عينيها صوب منطقة الشرق الأوسط، لن تجد أهم من مصر، التى هى بالنسبة لها أولا أمة ذات تاريخ عريق مثلها مثل الصين، وهى ثانيا تلعب دورا بارزا (بل وربما الأبرز) فى إقليمها العربي، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وحضاريا. وربما يكون فى هذا التوجه الصينى تأكيدا على خطأ الوهم الذى ساد فى عدد من العواصم العالمية والعربية فى السنوات الأخيرة، حيث تصور البعض أن مصر ضعفت وتراجع دورها ومكانتها. أربع مناسبات التقدير والاهتمام الصينى بحجم مصر وأهمية دورها ظهر مؤخرا فى أربع مناسبات رئيسية. الأولى، حينما وجهت بكين الدعوة للرئيس السيسى ليكون ضيف الشرف الخاص فى قمة مجموعة العشرين المقبلة، والتى ستستضيفها الصين فى شهر سبتمبر القادم، لتكون مصر إحدى دولتين يحق للصين، بصفتها الدولة المنظمة للقمة، دعوتهما للمشاركة كضيفى شرف. والمناسبة الثانية كانت عندما وجهت بكين الدعوة للقوات المسلحة المصرية للمشاركة بسرية حرس شرف فى الاستعراض العسكرى الكبير الذى شهدته بكين فى الثالث من سبتمبر الماضى، بمناسبة الذكرى السبعين لانتصار الصين فى الحرب العالمية الثانية، وشاركت فيه قوات أجنبية تمثل جميع قارات العالم، وكانت مصر الدولة العربية والإفريقية والشرق أوسطية الوحيدة المشاركة فى هذا الاستعراض. أما المناسبة الثالثة فكانت عندما أصبحت مصر اول دولة عربية وافريقية يتم رفع مستوى العلاقات معها إلى الشراكة الاستراتيجية الشاملة فى ديسمبر 2014. وأخيرا المناسبة الرابعة، كانت فى قبول الصين لعضوية مصر كعضو مؤسس فى البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية. ثانيا، أكد الجانب الصيني، فى البرنامج التنفيذى بشأن تعزيز علاقات الشراكة الإستراتيجية الشاملة خلال الأعوام الخمس القادمة، اهتمامه وتفهمه بشواغل مصر فيما يتعلق بأمنها المائي، وعلى دعم جهود الجانب المصرى لمعالجة هذه الشواغل والحفاظ على أمن مصر المائى فى إطار قواعد القانون الدولى المتعارف عليها. وتأتى أهمية ذلك فى ضوء إمكانية ممارسة بكين دور الوسيط النزيه مع أديس أبابا بشأن مشكلة سد النهضة مع مصر، خاصة وأن الصين هى أكبر شريك تجارى وتنموى لاثيوبيا، كما تشارك الشركات الصينية فى عدد من المشروعات ذات الصلة بسد النهضة. ثالثا، إدانة الجانبين المصرى والصينى الشديدة للهجمات والأعمال الإرهابية التى وقعت فى الجانب الآخر، ودعمهما لإجراءات الجانب الآخر لمكافحة الإرهاب. وفى هذا السياق، اتفق الجانبان على تعزيز التواصل والتعاون على المستويين الثنائى والمتعدد الأطراف لمكافحة الإرهاب والتطرف وملاحقة أعضاء الجماعات والمنظمات الإرهابية فى البلدين ومعاقبتهم، وتجفيف منابع تمويل الجماعات والمنظمات الإرهابية، مع إجراء أكبر قدر من التعاون فى تبادل المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالإرهاب والتحقيق وجمع الأدلة وملاحقة وإعادة المشتبه بهم. وتجدر الإشارة إلى أن الصين بدأت تعانى من وصول الأذرع الاخطبوطية لتنظيم داعش، حيث تنامت فى الشهور الأخيرة الاعمال الإرهابية التى تقوم بها «الذئاب المنفردة» التى يقدر عددها بحوالى 500 شخص من الاقلية المسلمة التى تسكن إقليم سينكيانج وتطالب بالانفصال عن الصين. رابعا، اتفق الجانبان على تعزيز التعاون فى مجال الطاقة، وخاصة فى مجال الطاقة الجديدة والمتجددة، مع العمل على دعم التصنيع المحلى للجانب المصرى فى مجال طاقة الرياح وصناعة الخلايا الشمسية وصناعة السليكون، إلى جانب بناء القدرات المصرية من خلال برامج التدريب فى مختلف مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة. كما اتفق الجانبان أيضا على تعزيز التعاون بين شركات النفط والغاز، مع تشجيع الشركات النفطية الصينية على المشاركة فى استكشاف وتنمية وإنتاج النفط والغاز وتنمية صناعة البتروكيماويات فى مصر، بما فى ذلك إنشاء وتطوير معامل تكرير النفط ومصانع إنتاج مختلف مواد البتروكيماويات، وتشجيع إقامة شركات مشتركة بين الصين ومصر لإقامة مشروعات مشتركة سواء فى مصر أو فى الشرق الأوسط وإفريقيا. خامسا، وقع الجانبان المصرى والصينى على 21 اتفاقية ومذكرة تفاهم، منها: اتفاقية تمويل بقيمة مليار دولار بين البنك المركزى المصرى والبنك المركزى الصيني، واتفاقية تمويل بقيمة 700 مليون دولار بين البنك الأهلى المصرى والبنك الصينى للتنمية، واتفاقيتان إطاريتان بين وزارة الكهرباء المصرية وكلا من هيئة تأمين الصادرات الصينية بشأن تمويل مشروعات الكهرباء، وبنك الاستيراد والتصدير الصينى بشأن تمويل مشروعات الشبكة الكهرباء المصرية، واتفاقات عقود مشروطة بين وزارة الإسكان المصرية وشركة «سى إس سى إى سي» الصينية بشأن تنفيذ المرحلة الأولى من العاصمة الادارية الجديدة. ومن ناحية أخرى، توصل الجانبان إلى عدد من مشروعات التعاون فى مجالات الطاقة الإنتاجية يبلغ عددها 15 مشروعا بإجمالى استثمارات يبلغ 15 مليار دولار. وأعلن الرئيس الصينى عن إطلاق المرحلة الثانية من التعاون بين مصر والصين فى مشروع تنمية منطقة قناة السويس، مشيرا إلى أن 100 شركة صينية ستعمل على ضخ استثمارات تقدر بنحو 2٫5 مليار دولار فى المشروع. وتجدر الإشارة إلى أنه قد تم انجاز المرحلة الأولى من مشروع تنمية منطقة قناة السويس عبر التعاون الاقتصادى والتجارى بين البلدين، والذى قامت من خلاله 34 شركة صينية باستثمار نحو 426 مليون دولار، وفرت قرابة ألفى فرصة عمل للشعب المصري. الخطوات المستقبلية وبناء على ذلك، يمكن القول إن الزيارة الأخيرة للرئيس الصينى إلى مصر نجحت بشكل كبير فى تدشين انطلاقة جديدة لشراكة نأمل أن تكون نموذجا للتعاون بين قوة عالمية صاعدة كالصين ودولة إقليمية محورية كمصر. غير أن ترجمة هذا النجاح على أرض الواقع لا يجب ان يقتصر على السادة الوزراء والمسئولين الحكوميين فقط، وإنما يجب أن يمتد إلى باقى قوى المجتمع من مراكز بحثية ومفكرين ورجال اعمال ودبلوماسيين سابقين وإعلاميين وغيرهم من ذوى المصلحة فى دفع العلاقات القوية بين الجانبين. فالكرة الآن فى ملعب الشعبين المصرى والصينى لاحراز الاهداف والمصالح والمنافع المشتركة. ومن واقع متابعتنا فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية لتطور العلاقات المصرية- الصينية فى السنوات الأخيرة، واستنادا إلى تفاعلنا المستمر مع عدد من الأصدقاء والنظراء فى عدد من الدوائر المالية والتجارية والبحثية والسياسية الصينية، نرى ضرورة أن يهتم السادة الوزراء فى الحكومة المصرية، فى المدى القصير، بتقديم مقترحات مدروسة وعملية وواقعية حتى يستجيب الصينيون بسرعة. كما يجب على الحكومة أيضا أن تتدخل بشكل مناسب لتهيئة الظروف المواتية لخلق بيئة القوانين اللازمة والبيئة الآمنة والبنية التحتية والسياسات المالية والضريبية المواتية لتحسين بيئة الاستثمارات الصينية، وإلا ستنتقل هذه الاستثمارات إلى دول أخرى ما سيفوت على مصر فرصة تاريخية نادرة لتحقيق التقدم الشامل. إجراءات عملية وفى المدى البعيد، يجب على الجانبين المصرى والصينى العمل معا من أجل ردم الهوة الثقافية الواسعة بينهما. وخير من يمكنه الاضطلاع بهذه المهمة هم الخبراء المصريون والصينيون المتخصصون فى لغة وثقافة وحضارة الطرف الآخر، فهم مفتاح دفع وتعزيز العلاقات بين الشعبين المصرى والصيني. وفى هذا الإطار، تعد المراكز البحثية والفكرية فى صلب القطاعات التى تستطيع ممارسةَ دور طليعى فى تجسير الفجوة المعرفية والثقافية بين الجانبين عبر عدة خطوات وإجراءات عملية: أولا، تكثيف برامج الالتقاء بين المؤسسات الفكرية والبحثية المهتمة بدفع وتعزيز التعاون بين الجانبين، فلا شك أن لدى كل طرف حصيلة زاخرة من الخبرات الممكن الاستفادة منها. ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال تبادل تنظيم المؤتمرات وورش العمل وإصدار ما ينجم عنها فى ملاحق فى كبريات الصحف الصينية والمصرية. ثانيا، تحديد اولويات معينة لاجندة البحث المشتركة بين الجانبين، ونقترح هنا البدء بالقضايا ذات الصلة بالمجالات الأمنية والثقافية. فالصين تبدو ناجحة فى ضبط الإيقاع التنموى والسياسى بقوة وحزم، كما تبدو بكين أيضا ناجحة فى تحقيق الانضباط فى أجهزة الدولة وموظفيها، وفى الانتاج وفى الأمن، وفى الحماية والدفاع. وهذه قضايا بالغة الأهمية فى ضوء أن الاستقرار السياسى هو أساس التقدم الاقتصادى والعمل والإنتاج، وكل ذلك يعد ركيزة مهمة لبناء الوطن. ثالثا، ايجاد مصادر تمويل ثابتة لأنشطة البحث المشتركة بين الجانبين المصرى والصيني، سواء من الجهات الرسمية أو الهيئات غير الرسمية ذات الصلة، وبما يحافظ على التعدد فى تلك الجهات والهيئات. رابعا، رعاية أجيال جديدة من الباحثين الشباب فى الجانبين، ليكونوا ذخيرة لتعزيز التعاون فى المستقبل، خاصة فيما يتعلق بالتعرف على الدروس المستفادة من الخبرات الصينية فى مجالات توعية المجتمع بأهمية وضرورة الإيمان والولاء الكامل للوطن، والحرص على العمل واجادته، وإدراك الهوية الحضارية للمجتمع وليس المفاهيم المستوردة من أى دولة أخرى.