الخارجية المصرية هى أحد حصون الوطن، وأداته للتعبير عن تطور الدولة وطموحات شعبها، وهى حائط الصد الأول فى مواجهة العالم الخارجي، لتطوع سياساته بما يخدم مصلحة الوطن ويعود عليه بالفائدة. وقد لعبت تلك المؤسسة العريقة المشهود بكفاءتها إقليميا ودوليا دورا رئيسيا فى الانطلاق بآفاق السياسة الخارجية خلال السنوات الخمس الماضية لأبعاد وحدود غير مسبوقة بفضل انضباطها المؤسسى وقدرتها التنظيمية، وكفاءة أبنائها وقياداتها. ولم تكن تطورات السنوات الخمس الماضية وما شهدته البلاد خلالها من أحداث لثورتين بكل أبعادهما وتداعياتهما الفارقة داخليا وخارجيا بالأمر الهين على أى من مؤسسات الدولة والتى تعرضت جميعها لمخاطر وضغوط التكيف مع الواقع السياسى الجديد وما تلاه. وبفضل كل عوامل التميز المؤسسى والبشرى استفادت، بل وانتهزت الخارجية المصرية حدث التغيير الجذرى بعد ثورة يناير لتعيد تقييم الأولويات وتطور أسس العمل الخارجي، والذى قيدته وفرضه ركود السلطة والإدارة والتى امتدت لعقود أسيرة علاقات وقيود استراتيجية وإقليمية. ولعبت الخارجية دورا فاعلا جديدا أسميه دورا قتاليا على مستوى التصدى لردود الأفعال غير المواتية بعد ثورة 30 يونيو، فلم يكن الأمر لمن عاشوه وخابروه فى العواصم الأوروبية الكبرى سهلا، حيث احتاج الأمر لتواصل وتفاعل غير مسبوق إزاء حالة أوروبية وأمريكية اختلط فيها ما أسفرت عنه ثورة 30 يونيو من تغيير وما لديهم من قناعات، ومع التواصل والمثابرة ورغم ضغوط الإعلام فى الخارج وأحيانا فى الداخل استعادت الخارجية المصرية ثوابت علاقاتها بالعواصم الكبرى، بل وتقدمت بتلك العلاقات لآفاق استراتيجية أرحب سواء عسكرية أو سياسية أو اقتصادية مع الشريك الفرنسى ومع ألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة واليونان وقبرص وغيرها، إضافة لروسيا الاتحادية والتى باتت علاقاتها مع مصر شريكها التاريخى فى المنطقة تستعيد رونقها وأهميتها، وتؤشر الزيارة المهمة للرئيس الصينى لآفاق أكثر عمقا مع الصين، وقبل ذلك كانت زيارة الرئيس السيسى للهند ولقاؤه رئيس وزرائها «ناريندرا مودي» للمرة الثانية خلال أشهر قليلة والرئيس «برناب مخارجي» لتعيد الدفء لعلاقات تاريخية مع أحد أهم الحواضر الآسيوية، مرورا بكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرهما. ولعل أهم محاور التحركات المهمة والمؤثرة للخارجية المصرية توجهها الفاعل تجاه إفريقيا، ومشاركة الرئيس فى القمم الإفريقية المتعاقبة وتواصله مع قياداتها واختياره ممثلا لهم فى قمة المناخ، ولعل المعركة الأصعب والدالة على حجم ما تحقق فى إفريقيا هى قدرة وزارة الخارجية على التفاعل والتعامل مع أزمة تجميد الاتحاد الإفريقى عضوية مصر بعد ثورة يونيو، حيث عكست تلك المعركة الدبلوماسية الفريدة التى أسهمت فيها سفاراتنا فى كل العواصم، وبتحركات واعية على مستوى القيادة ووزارة الخارجية إمكان تصويب الوضع واستعادة مصر نشاطها فى محيطها الإفريقى وداخل مؤسستها الجامعة والاتحاد الإفريقي. وقد عكست تلك المواجهة الدبلوماسية مدى ما لمصر وقيادتها ودبلوماسيتها من قدرة، وما لها من رصيد وتقدير، شكلا ضغطا إفريقيا داخليا لإعادة الأمور لنصابها مع مصر، الدولة الأكثر قربا من طموحات وآمال القارة والعاملة بجد ودون أهداف خاصة لتحقيقها من أجل إفريقيا الواحدة. والمتابع للمشهد السياسى خلال الأسابيع الماضية يمكنه أن يدرك حجم ما تحقق على مستوى الانطلاق بسياسة مصر الخارجية لآفاق رحبة واعدة، فالرئيس الصينى فى القاهرة، والصلات المصرية الروسية مميزة ومستمرة، والعلاقات مع واشنطن جيدة نسبيا فمبعوث أمنى أمريكى رفيع المستوى على رأس وفد كبير، ووفد زائر من مجلس العموم البريطاني، وتواصل لم ينقطع و تزداد أواصره مع دول الخليج، وليبيا وباقى الأشقاء فى شمال إفريقيا ولقاء وزارى مصرى ألمانى فى برلين، كل ذلك ومصر تتبوأ مقعدها غير الدائم ممثلة عن القارة الإفريقية فى مجلس الأمن للعامين القادمين، علاوة على دور بارز فى الملف السورى وملفات أخرى كالهجرة غير الشرعية واللاجئين. كل تلك المؤشرات والمشاهد هى ما تعبر عن مدى التطور الذى تحقق فى مسار السياسة الخارجية المصرية، والتى باتت أيضا أكثر قوة باستعادة «دبلوماسية القمة» كرافد أساسى من روافد العمل الدبلوماسى الخارجي، فكل زيارات الرئيس الخارجية تمت بشكل منهجى منظم يخاطب قضايا وتحديات الساعة سواء كانت باتجاه القارة الإفريقية، أو لآسيا أو لأوروبا، وفى الجوار العربي، بهدف تحقيق مصالح اقتصادية ومكاسب سياسية وتنموية بارزة. لمصر إذن أن تفتخر بسياستها الخارجية والمرشحة لانطلاقة أكبر، نأمل معها أن تستعيد دورها الإقليمى وتتواصل مع دوله وأطرافه الرئيسية لصياغة نموذج «تعاون وأمن» قادر على أن يعيد للشرق الأوسط تاريخه وأمجاده ويبعد شعوبه عما يحاك لها، إما فى دوائر خارجية أو من قوى للأسف من داخل الإقليم، لقد آن أوان تحرك دبلوماسى مصرى فاعل يعيد الثقة بين دول المنطقة وجيرانها، وهو تحد رغم صعوباته فأننا نملك القدرة على تحقيقه لما تتمتع به مصر من تقدير وثقة وقيادتها السياسية من احترام، ودبلوماسيتها الرفيعة من قدرات بشرية ومؤسسية فاعلة. ان حجم ما انجزته الدبلوماسية المصرية على مدى السنوات الخمس الماضية، وتطويرها لادواتها وقدرتها على استيعاب التحولات الجذرية فى الداخل، والتطورات الاقليمية والتغيرات غير المسبوقة فى محيطنا الجغرافي، وتحملها وسط كل ذلك الضغوط الاعلامية والحقوقية المشبوهة احيانا، والتعنت السياسى لبعض الإدارات والمؤسسات الدولية، اقول إن حجم انجازات تلك المؤسسة العريقة بابنائها الذين هم من مقاتلى هذا الوطن وان كانت على جبهة مختلفة يستحقون كل تقدير، وكلى ثقة وأمل فى أن يتم تكريم الخارجية المصرية بوزرائها السابقين الذين تحملوا عبء قيادة السفينة أو سفرائها الذين تحملوا اعباء تنفيذ استراتيجيات التحرك وأوامر المعارك الدبلوماسية العديدة، أو ابناء مصر من الدبلوماسيين بدرجاتهم، والذين يجمعهم حب الوطن والولاء المخلص للدولة المصرية العتيدة، والذين تحملوا عبء الدفاع عن صورة مصر بعد ثورتين وحققوا للوطن مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية كبري، ولا يزالون فى مواقعهم يواجهون تحديات أخرى سينتصرون فيها بفضل تلاحمنا ووحدة صفنا وحكمة سياستنا واهدافها النبيلة. لمزيد من مقالات محمد حجازى