نحن المصريون نعرف أن هناك عيد يسمى بالغُطاس عند المسيحيين، كل عام ونحن جميعا إخوة وبألف خير وصحة وسعادة.. ولكن الكثيرين قد لا يعلمون الكثير عن هذا العيد. كان الغطاس عيداً قومياً، تحتفل به مصر احتفالاً رسمياً، شعبياً، شائقاً بلغ حده أن حاكم مصر نفسه ورجال حكومته وأُسرته ومعاونيه كانوا يشتركون فيه، ويأمرون بإقامة الزينة، وإيقاد النيران، وإضاءة المشاعل، وتعميم الأفراح الشعبية في كل مكان، وتوزيع المأكولات على الأهالي، مع الصدقات على الفقراء، وكان الناس يغطسون في النيل تبّرُكاً بهذه المناسبة السعيدة. أعزائي القرّاء هذا المقال للتعريف بهذه المناسبة .. فهناك عادات شعبية تقام في هذه الليلة.. وهي جميلة تتوارث من الأجداد وما زالت تورث للأحفاد على أمل ألا تضيع هذه العادات اللطيفة. في مصر فقط تجد جميع أبناء الوطن يتشاركون في طقوس أعيادهم الدينية بما يؤكد عمق الصلة بينهم كنسيج لوطن واحد، ما يؤكد أن تلك الطقوس تنبع في معظمها من أرضية واحدة حتى أصبحت تسمى بالعادات المصرية، والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى أحدثها ما تشهده مصر في عيد احتفال المسيحيين بعيد الغطاس، فالعادات واحدة والطقوس مشتركة وأهمها تناول وجبة القلقاس الأخضر ومص القصب. ويروى "المقريزي" أن الأقباط كانوا يحتفلون بعيد "الغطاس" في زمانه عن طريق عمل الفوانيس والشموع الضخمة وكان يسمي هذا اليوم من الأعياد "عيد الأنوار" ويوجد في منطقة مصر القديمة بجوار الكنائس الأثرية في منطقة تسمي قصر الشمع، حيث كان الأقباط يصنعون الفوانيس والشموع تأثرا بفانوس رمضان. قليلون هم من يعرفون أن هذه المناسبة تسمى بالعامية في دول المشرق العربي (العراق و بلاد الشام تحديداً) "الدايم دايم" أو "الغُطاس" كما معروف وبالفصحى تسميه الكنائس المسيحية "الدنح أو ذكرى اعتماد السيد المسيح في نهر الأردن". وتسمى هذه الليلة بالدايم دايم لأن روايات الأقدمين تقول أن في مثل هذه الليلة يزور المسيح كلّ الأرض التي تنحني لاستقباله حتى بشجرها.. لذا تعجن الأمهات في البيوت عجينة صغيرة دون إضافة الخميرة لها و تعلقها في الشجر.. أملا بالتماس البركة .. ثم استعمالها لتبريك المعجن الذي كان عمود البيت القروي و رأسماله . ومن العادات الأخرى أن يفتح القرويون في مثل هذه الليلة كل ما يملكون من خزائن في المنزل.. زيت وحبوب و كل مؤنهم لالتماس البركة و دوام وجودها في البيت. و من أشهر المأكولات في عيد الغُطاس وأكثرها شهرة في بلاد الشام هي: "العوامات والزلابية" التي تغطٍ في الزيت المغلي ثم تغطى بالقطر (العسل أو الشربات) لتصبح من ألذ الأنواع التي يتهافت عليها الكبار قبل الصغار.. وفي مصر بالذات، نشتهر بوجبة القلقاس الأخضر والبط و(مص) عيدان القصب. و يروى في السير الشعبية: "ليلة عيد الغطاس، مرّ السيد المسيح على امرأة فقيرة لا تملك شيئا لتأكله، دون أن تعلم من هو وسألها، ماذا تفعلين؟ قالت أعمل على قلي العجين الممزوج بالماء، لأطعم أولادي، وخلال الحوار بدأ العجين يكثر في الوعاء وفاض من كثرة اختماره... وكان الأهالي يقولون للبنات بأن تضعن عجينة غير مختمرة، على غصن شجرة، لكي يباركها "الدايم دايم" فالعجينة التي تضعها النساء على أغصان الأشجار ليباركها المسيح تصبح خميرة، يؤخذ منها جزء صغير فتخمّر كمية كبيرة من العجين. وهناك قصة أخرى تقول: "ليلة الغطاس مرّ السيد المسيح على امرأة فقيرة، وسألها ماذا تفعلين؟ فقالت اقلي العجين لأولادي لأنهم جائعون، ولم يكن لديها طحين، فمزجت التراب مع الماء، فقال لها حسب قولك يكون، عندها تحول التراب إلى عجين، وأصبح زلابية، في حين مرّ على امرأة أخرى وسألها السؤال نفسه، فخافت أن يأكل ما لديها لأنها بخيلة، فقالت له أطبخ حصىً، وأجابها حسب قولك يكون، فتحول الطعام إلى "بحص". ويروى قديما إن نهر النيل كان يمتلئ بالمراكب والزوارق، ويجتمع فيها السواد الأعظم .. من المسلمين والمسيحيين، فإذا دخل الليل تُزَيَّن المراكب بالقناديل، وتُشعل فيها الشموع، وكذلك على جانب الشواطئ يُشعل أكثر من ألفى مشعل وألف فانوس، وينزل رؤساء القبط في المراكب، ولا يُغلق في تلك الليلة دكان ولا درب ولا سوق، ويغطسون بعد العشاء في بحر النيل، المسيحيون مع المسلمين سوياً، ويزعمون أن من يغطس في تلك الليلة يأمن من الضعف في تلك السنة. من قلبي: استمرت الاحتفالات بعيد الغطاس أجيالاً، وقد سُجّلت في كتب التاريخ، بمؤرخين مسلمين وأقباط، كمظهر من المظاهر القومية في مصر، ولكن مع الأسف، أثَّرت العولمة وروح العصر التي يغلب عليها التمدين، على تقاليدنا وها هي تسعى لتمحوها !! كل سنة وأنتم طيبين و دايم دايم في دياركم كلّ محبة و سلام و طمأنينة هذه الليلة! [email protected] لمزيد من مقالات ريهام مازن