فى رحلة عودة من الولاياتالمتحدةالأمريكية، مؤخرا، والتى تستغرق نحو 19ساعة، وتغيير الطائرات، وانتظار بمطارات، قررت للمرة الأولى أن «أعيش خارج دائرة الزمن» حتى لا أشعر بوطأة التعب.. أخفيت ساعتى لكى لا أنظر إليها وأمضيت فترة طويلة فى الرحلة إلى القاهرة أقرأ، وأنام، وأتناول الطعام.. وحين شق الفجر طريقه، لم أعد أطيق «إسقاط الزمن» عن خاطري، ونظرت إلى الساعة بشغف، واكتشفت أنه باقى من الزمن خمس ساعات. فى هذه اللحظة، لم استطع الفرار من التفكير فى إجابة عن سؤال: كيف اختفى شعور المصريين بوطأة الزمن؟ كيف سقط من حسابات الغالبية العظمى «قيمة الوقت»؟ إن افتقاد قيمة الوقت أصبح اتجاها عاما يتسم به المجتمع المصري، ويعكس اللامبالاة والسلبية وعدم احترام الآخرين، وهو أحد مكونات افتقاد المهنية والكفاءة فى العمل. وفى اعتقادى أن جميعنا - نحن المصريين- إما نلمس هذه الظاهرة، وبكل وضوح، أو ممن لا يدركون قيمة الوقت، ولا ينشغلون بالزمن. إن التقدم أو التخلف أو محاولة النهوض، مفتاحه إدراك قيمة الوقت والالتزام، وهو أحد المعايير المهمة التى يمكن من خلالها فهم لماذا التقدم ولماذا التخلف.. للأسف لابد من الاعتراف أننا شعب لا يشعر بوطأة الزمن، لا يدرك مرور الأيام والسنوات، دون خطوة واحدة للأمام، شعب غير مهيأ لتغيير نفسه - بعض الشيء- لينتقل إلى مرحلة أخرى وجديدة. فى الصباح الباكر تزدحم الشوارع، ويذهب الآلاف والملايين إلى أعمالهم، أو هكذا نفترض، إلا أن الشعور «بوطأة الزمن» غير قائم، وإذا كان موجودا فهو للتوقيع فى المواعيد الرسمية والحصول على الحوافز إلى جانب الرواتب. إن مؤسسات الدولة هى النموذج السافر لغياب قيمة الوقت، وتعطيل مصالح الناس أو انجازها فى عدة ساعات، وهى تستلزم دقائق، أحد ملامح الأداء البطيء وهدر الوقت وهدر الموارد.. وعلى الجانب الآخر فإن السكوت على هذا الهدر واستمراره بلا محاسبة وبلا مراقبة، هو أمر آخر يؤكد أننا لا ندرك أن العالم كله يتغير من حولنا، ونحن محلك سر.. لقد اختفت وطأة الزمن.. حين تخليت عن ساعة يدى فى الطائرة، فى رحلة العودة من الولاياتالمتحدة، تذكرت حرص الجميع فى المحروسة على امتلاك الساعات، وتزيين جميع مؤسسات الدولة بها، وفى كل إدارة تتوافر الساعات، ولكن يبدو أنها فقط لمتابعة الوقت والانصراف... كل من يجلسون على مقاهى المحروسة حريصون أيضا على متابعة الوقت، والنظر إلى الهواتف المحمولة أو التحدث مع الأصدقاء... هى حالة مدهشة لعلاقة الإنسان المصرى بالساعة، تحتاج إلى البحث العميق فى «قيمة الوقت».. حين أيقنت فى رحلة العودة إلى القاهرة، أنه باق من الزمن خمس ساعات، خططت لما سأفعله فى هذا الزمن المتبقى وبدأت أراجع أوراق عمل مهمة لم انته منها، ثم استكمل قراءة رواية «قواعد العشق الأربعون» وللمرة الثانية. لقد اعتدت - وفى مراحل عمرى الأولي- أن تنشأ بينى وبين الزمن علاقة خاصة جدا، أخشى أن يمر الوقت دون أن أنجز الواجبات المدرسية، وأبكى إذا حل الليل، دون الانتهاء منها.. لقد شرح لنا الأستاذ على - أستاذ اللغة العربية- ونحن أطفال، مقولة إن «الوقت كالسيف إذا لم تقطعه قطعك» استوعبت وغيري، بأمثلة ذكرها، قيمة الوقت واحترامه والتخطيط للوقت - قبل أن يكون سيفا يقطعني- وكان هذا هو دور المدرسة ودور الأسرة، كل شيء له وقته، الجد واللعب.. وكانت النماذج واضحة تماما تتسق مع القيمة، قيمة احترام الوقت. عدت بخواطرى فى رحلة العودة الطويلة من الخارج، إلى ضياع قيمة الوقت فى مصرنا الحبيبة، ووجدت «بعض العذر» لملايين البشر من الطلاب والعاملين والمتقاعدين، إذا كانوا لم يتعلموا أو لم يختبروا قيمة الوقت.. المدرسون وأساتذة الجامعات - فى أغلبهم- لا يحترمون وقت الطلاب، وبرامج تليفزيونية متواصلة يتحدث فيها مذيع البرنامج - وحده- لساعتين أو أكثر، وسائقو المواصلات العامة لا مانع لديهم للتوقف - وتعطيل الركاب- لاحتساء الشاى أو القهوة.. وفى المحاكم والإجراءات القضائية لا قيمة للوقت، وصول القضاة متأخرين مسألة عادية للغاية، وفتح لجان الانتخابات، قد تأخر فى بعضها ساعات، على النحو الذى تابعناه مؤخرا... وتداول القضايا والنظر فيها، مهما كانت أهميتها، يستغرق فترات زمنية طويلة. وهكذا لا يشعر أحد «بوطأة الزمن» واختفى الشعور به لدى البعض، وصاحب ذلك اختفاء لنماذج ملتزمة تعمل وتنشط وتحترم وتدرك قيمة الوقت... وحين وصلت طائرة مصر للطيران إلى مطار القاهرة الجوي، واصطف مئات الركاب أمام الجوازات لأكثر من ساعة، تأكدت أن الأمل فى التغيير محدود، ولا جدوى من الحديث... لقد وصل الضباط متأخرين، فقد كان ذلك هو وقت الإفطار وحين تتساءل وتتعجب تكون الإجابة «الحاسب الآلى سقط» أى لا يعمل... وهنا أدركت «عظمة» الشخصية المصرية التى طبعت سماتها القومية على التكنولوجيا والحاسبات الآلية.. وعجبى.... لمزيد من مقالات د. امانى قنديل