عصام الدين حفنى ناصف هو واحد من روّاد الحركة الوطنية المصرية فى مطلع القرن العشرين. نشأ فى كنف والده حفنى ناصف الذى كان من رفاق أحمد عرابى فى ثورته. وكان شاعرا مميّزا. وكان لعصام شقيق متمرّد مثله، هو مجد الدين وشقيقة ثائرة هى ملك التى صارت تعرف باسم «باحثة البادية». لذلك لم يكن مستغربا أن يدخل الشاب عصام الدين منذ شبابه الباكر فى الحركة الوطنية المصرية داخل الحزب الوطنى الذى كان قد أسّسه الزعيم مصطفى كامل فى عام 1907 وداخل حزب الوفد الذى أسّسه سعد زغلول عقب ثورة 1919. لكن عصام الدين حفنى ناصف تميَّز عن شقيقه وعن شقيقته، على أهمية المواقف الوطنية التى اتبعها كل منهما، فى أنّه ثابر بنشاط على العمل الوطنى فى ميادينه كلها، إضافة إلى الجهد الفكرى الذى جعل منه أحد المفكرين العلمانيين فى تلك المرحلة، باسم الاشتراكية التى كتب عنها وعن تاريخ نشوئها، متأثرا بماركس وإنجلز، ومتأثرا فى الآن ذاته ومعمما أفكار داروين فى النشوء والارتقاء. وقبل أن أدخل فى سيرة هذا الرائد الوطنى الكبير أود أن أستشهد ببعض كلمات لعميد الأدب العربى طه حسين يقيّم فيها حفنى ناصف والد عصام الدين. يقول طه حسين فى المقدمة التى وضعها لديوان حفنى ناصف: «لقد عرف احتفار قناة السويس فى آخر الصبا.. وعرف الثورة العرابية وشارك فيها حين استكمل شبابه. ثم شهد الاحتلال البريطانى وشقى به فى من شقوا من مواطنيه. وشهد الصفوة المصرية المقاومة لهذا الاحتلال. فأخذ منها ما أخذت فيه. ثم شهد العقلية لمصر. فكان من رعاتها والجادين فى إذكاء نارها من أمثال محمد عبده ومصطفى كامل وقاسم أمين وسعد زغلول». من مفاخر حفنى ناصيف هذا الرائد الكبير أنّه كان أستاذا فى كلية الحقوق وتعلَّم على يديه بعض أقطاب الحركة الوطنية والحركة الأدبية من أمثال الزعيم مصطفى كامل وأمير الشعراء أحمد شوقى وأحمد زكى ولطفى السيد وعبد الخالق ثروت وطلعت حرب وطه حسين. وفى كنف هذه الشخصية الوطنية المميزة نشأ عصام الدين ومجد الدين وملك. وكان لكل من الثلاثة طريقته فى متابعة ما نشأوا عليه فى كنف الوالد. لكن عصام الدين كان الأكثر انغماسا فى الحركة الوطنية. فكان فى الخامسة عشرة من عمره قريبا من الحزب الوطني. وتابع منذ ذلك التاريخ نشاطه الوطنى باسم أفكار والده وأفكار الحزب الوطني. وحين ذهب إلى ألمانيا لمتابعة دراسته فى جامعاتها لم يكتفِ بطلب العلم. بل أسّس مع رفاقه من الطلبة المصريين فى ألمانيا جمعية طالبية تولّى هو سكرتيرها. فى حين تولّى شقيقه مجد الدين فى فرنسا العمل على تأسيس جمعية مماثلة وكان هو سكرتيرها. وكان كلاهما عصام الدين ومجد الدين فى كل من برلينوباريس على علاقة بالحزب الاشتراكى فى البلدين، لا سيما فى باريس مع رئيس الحزب آنذاك مارسيل كاشان الذى كان من أبطال الانقسام عن الحزب الاشتراكى وتأسيس الحزب الشيوعى الفرنسى فى عام 1920 تأثرا بثورة أكتوبر وبأفكار قائدها لينين. والمعروف فى ذلك التاريخ أنّ سعد زغلول وأعضاء الوفد الذين ذهبوا إلى مؤتمر الصلح فى عام 1919 للمطالبة باستقلال مصر وجلاء القوات البريطانية عنها، كانوا يستقوون فى مطالبهم الوطنية بكل من الحزبين الاشتراكيين فى ألمانياوفرنسا وبالأحزاب المماثلة لهما فى أوروبا. وكان ذلك أحد المصادر التى قادت عصام الدين وشقيقه مجد الدين إلى الاشتراكية كل منهما على طريقته. كان عصام الدين بخلاف مجد الدين أكثر انغماسا فى العمل الثورى بكل طاقاته. إذ كان يرى أنّ المرحلة هى مرحلة ثورة بكل الأشكال من أجل تحقيق الهدف الأساس وهو استقلال مصر وجلاء القوات البريطانية المحتلة عنها. وقد قادته مواقفه الثورية إلى تبنّى الاشتراكية كما أسلفت. ومعروف أنّ الحزب الاشتراكى المصرى كان قد تشكّل فى عام 1921 وكان من أعضائه المؤسسين سلامه موسى ومحمد عبدالله عنان. لكن الحزب سرعان ما واجه انقساما حادا قامت به مجموعة من الشيوعيين كان من بينهم ثلاثة لبنانيين هم رفيق جبور وأنطون مارون وفؤاد الشمالي. وقامت تلك المجموعة بتأسيس الحزب الشيوعى المصرى فى عام 1923. ويروى عن تلك المرحلة من ثورة 1919 أنّ جمعيتيّ ألمانياوفرنسا للطلاب المصريين بقيادة عصام الدين وشقيقه مجد الدين ناصف قد التقتا على نقد مواقف الوفد المصرى بزعامة سعد زغلول، واتهمتاه بالمساومة على القضية الوطنية، رغم أنّ الشقيقين كانا قد انضما إلى الثورة، ثم إلى ما صار يعرف لاحقاً بحزب الوفد المصري. وعقب ذلك الحدث انتقل عصام الدين من حزب الوفد إلى الحزب الوطنى الذى كان قد أسّسه مصطفى كامل. ثم سرعان ما ترك هذا الحزب. إذ كانت تحكم مواقفه نزعة ثورية وصفت بالتطرف سياسيا واجتماعيا. وكان يزداد مع تطور الأحداث ارتباطا بالأفكار الاشتراكية. وقيل إنّه كان على صلة بأحد ممثّلى الكومنترن من البلاشفة الروس. وبرغم النزعة الثورية الفائقة عنده وميوله الواضحة إلى الاشتراكية فإنّه اعترض فى فترة النقاش حول تأسيس الحزب الاشتراكى على ذلك التأسيس، لأنّ مصر لم تكن فى نظره فى تلك المرحلة بحاجة إلى حزب اشتراكي. بل كانت تحتاج إلى تجميع القوى من كل التيارات. لكنه كان نصيرا للشيوعيين عندما دخلوا السجون. وأسّس جمعية للدفاع عن السجناء الشيوعيين والوطنيين. ومعروف أنّ نزعته الثورية المشار لها قد قادته هو ذاته فى مراحل مختلفة إلى السجون. وكان عام 1919 البداية فى ذلك المسار. ففى ذلك العام وجهت إليه تهمة طبع منشورات تحرِّض الناس على كراهية الحكومة والازدراء بها. وحكم عليه بالسجن لثمانية أشهر. وتكرّر دخوله السجن فى مناسبات مختلفة. لكنه كان فى كل مرّة يحاكم سجّانيه خلال المحاكمة ويصر على مواقفه الشجاعة من دون أى تراجع. وتشير إلى شجاعته فى الدفاع عن مواقفه فى المحاكم هذه الفقرة من السجال بينه وبين المحقِّق فى المحكمة عندما أصدر كتابه «التجديد الاجتماعي» فى عام 1931. س: هل أنت ناشر كتاب التجديد الاجتماعي؟ ج : نعم. وقد طبعت منه 1500 نسخة بيع معظمها. س: قلت فى كتابك أنّ ثمة أناسا لا ينظرون إلى الفلاّح إلاّ باعتباره ثورا. فمن هم هؤلاء؟ ج: هم طائفة كبيرة من أصحاب الأطيان والمصانع. س: تشير فى كتابك إلى الأموال التى تنفق فى سفه سخيف وتكفى لتحسين حال الفلاّح إلى حدٍّ ما. فماذا تقصد؟ ج: أقصد مثلاً الأموال التى تنفق على الزينة فى أعياد جلالة الملك. والبرنس يوسف كمال مثلا عنده 40 كلباً للصيد يذبح لها خرفان والفلاّحون العاملون فى أرضه لا يأكلون سوى المش. تحوّل عصام الدين بعد المرحلة الأولى من شبابه التى كان فيها ثائرا متمردا إلى مفكّر تنويرى مع عدد من جيل التنويريين الذين أغنوا تراث مصر الثقافى والحضارى فى النصف الأول من القرن العشرين. وأصدر العديد من الكتب. وكتب الكثير من المقالات فى الصحافة المصرية فى قضايا فكرية واجتماعية. وهو يتوقّف فى بحث مطوّل عن الاشتراكية بعد أن يستعرض تاريخ بروزها فى أوروبا بأنواعها وأسمائها المختلفة، يتوقف عند ما سمّاه «الاشتراكية التطورية» فيقول: لئن كانت إنكلترا أسبق الدول إلى نشوء طبقة العمال الصناعيين المأجورين بها إلاّ أنّ فرنسا قد سبقتها فى قيام الحركات الاشتراكية والشيوعية بها. فقد ظهر فيها قبل الثورة الفرنسية وخلالها رجال ذوو ميول واتجاهات اشتراكية أعلنوا نظريات اشتراكية ووضعوا برامج اشتراكية وكوّنوا أحزاباً اشتراكية. على أننا حين نتكلّم عن بدء قيام الحركات الاشتراكية فى فرنسا يكون من الخطأ أن نبدأ بالثورة الفرنسية الكبرى. فإنّ الخاصة الأساسية فى تلك الحركة السياسية الكبرى لم تكن اشتراكية، وإنّما كانت الحركة تحريرية قبل كل شيء، ترمى إلى إزالة النظام الإقطاعى وقيود نظام المهن. وهذا النظام وهذه القيود هى التى تعوق تقدّم البرجوازيين وازدهارهم. ويقول فى مقال له عن تاريخ الاشتراكية فى فرنسا قبل الثورة الفرنسية وخلالها: «أما الاشتراكية التطورية تنقسم إلى (1) الاشتراكية الداروينية (2) اشتراكية ماركس وإنجلز (المادية. الأولى تنقل بعض القوانين الداروينية فى العلوم الطبيعية إلى الحياة الاجتماعية بمعنى أنّ الترقى الضرورى للجمعية سيسير بها إلى أسمى أشكال الاشتراكية. ومن زعماء هذا المذهب فولتمان وهو يرى أنّ نظام رأس المال الخاص لا يمثِّل الكفاح لأجل الحياة بالمعنى الدارويني، وأنّ واجب الاشتراكية هو إيجاد المنافسة الطبيعية. فهى بإعادة ارتباط العامل بوسائل عمله تصنع الأساس للنشاط الشخصى فى المنافسة الصناعية المنتجة المماثلة للكفاح الحيوانى المؤدى إلى الرقي. أما الكفاح التجارى لأجل البضائع والأماكن فهو فى الجمعية الرأسمالية المنتجة للبضائع، سبب للانحطاط والشقاء. أمّا اشتراكية ماركس وإنجلز فقد أوجدت فلسفة اجتماعية خاصة بها تسمّى التأويل المادى للتاريخ. والمقصود بها هو الرجوع بالحياة الاجتماعية فى النهاية إلى الحوادث الاقتصادية. ويرى أنصار هذا الرأى أنّ المُثُل العليا إن هى إلاّ انعكاسات للحوادث الاقتصادية. فأساس الترتيبات والأنظمة فى الجمعية هى الإنتاج ثم تبادل البضائع. فإذا تساءلنا كيف تنتج البضائع وتتبادل فمعنى ذلك أنّنا نتساءل عن النظام الذى تعيش بمقتضاه الجماعة. فإذا تغيّرت كيفية إنتاج البضائع وتبادلها تغيّر النظام القانونى الذى تعيش الجماعة بمقتضاه. بل يتغيّر بها فى النهاية كل ما فى المجتمع من آداب وعوائد وعقائد دينية. وعلى ذلك فالاشتراكية ليست «مثلاً أعلى». بل هى «خطوة إلزامية جديدة للمجتمع». وسينتهى بمقتضى هذا القانون أجل الرأسمالية لا لأنّها غير عادلة بل لأنها قد هرمت». والذى له القول الفصل فى تعيين شكل الجماعة ومعيشتهم معاً هو كما يقول كاوتسكى «التقدّم الصناعى وليست المساعى الإنسانية». الحديث عن عصام الدين حفنى ناصف ممتع لأنّ سيرته غنية فى مجالات نشاطه السياسى والفكري. وفى هذا العرض المكثف الذى أقدمه هنا للقارئ ما يشير إلى الغنى فى سيرته. وأنصح القارئ بأن يعود إلى كتاب الدكتور رفعت السعيد المكرس لسيرته السياسية والفكرية. فهو كتاب يشمل كل ما يحتاج إليه من يريد المزيد من المعرفة عن هذه الشخصية الفذّة. وقد استندت أساساً إلى هذا الكتاب، إضافة إلى عدد من المقالات لعصام الدين ذاته ولبعض الكتابات الأخرى عنه. لمزيد من مقالات كريم مروَّة