من بين الرسائل التى تلقيتها هذا الأسبوع، رسالة بتوقيع هالة برعى من الإسكندرية وتقول فيها: أعرفها منذ أكثر من عشرين عاما، فهى أستاذة جامعية بإحدى كليات «القمة»، عاشت ظروفا صعبة جدا فى حياتها، بدأتها بالكفاح مبكرا دون كلل أو ملل، وكانت المحصلة بعد عقود من الشقاء والغربة للعمل فى العديد من الجامعات العربية ثلاث بنات تفخر بهن فى كل المحافل، ولم تعبأ بانفصالها عن زوجها مبكرا نتيجة خلافات بينهما، ومضت من نجاح إلى نجاح حتى تزوجت البنات وصارت لهن بيوت مستقرة مع أزواج يقدرونهن، وأنجبن العديد من الأحفاد الذين بعثوا البهجة والسعادة فى نفس هذه السيدة الفاضلة التى بلغت سن الثامنة والستين، ولا أبعث برسالتى إليك لكى أروى لك تجربتها الفريدة فى تربية بناتها، ولا لأتحدث عن كيفية مواجهتها طوفان المصاعب والعقبات التى واجهتها ولكنى أردت أن أكتب إليك عن اللحظة الجميلة والمناسبة السعيدة، التى جاءت ببناتها من أمريكا وكندا وبصحبتهن أزواجهن وأبناؤهن، أما المناسبة فهى أن صديقتى تزوجت من أستاذ جامعى فى الخامسة والسبعين، ماتت زوجته، ولم يرزقا بأولاد، وصارت بنات صديقتى وأحفادها هم بناته وأحفاده، وزاد من سعادة الجميع أن الزوجين متقاربان فكرا ونضجا، وفى ظروف أخرى كانت هذه الخطوة كفيلة بأن تقلب موازين حياتهما رأسا على عقب،لكن عمق الصداقة والحب، وروح المودة التى تربطها ببناتها جعلت هذا المشهد يمر على الجميع بنوع من الدفء والسعادة. هناك فى بيتها الممتلئ بكل معانى الألفة قابلت زوج المستقبل الذى سافر الى معظم دول العالم كأستاذ فى الجامعة، ثم من خلال عمله فى هيئة اليونسكو.. إنه عريس اليوم الذى رفضه أخوها منذ أكثر من نصف قرن لأن أختها الكبرى لم تكن قد تزوجت بعد، فالآن وفى غفلة من «التعسف الأسري» يتحقق المراد لكى يتأكد الجميع أنه حتما ستأتى السعادة، وأن الزواج سيكون من نصيبهما مهما طال الزمن، فلقد اهتم هذا الرجل الحنون بزوجته الراحلة، ولم يتركها لحظة واحدة طوال فترة مرضها التى امتدت لسنوات، وحتى رحيلها منذ عدة شهور، وبعد المعاناة من الشعور بالوحدة، اتخذ قراره بالارتباط بمن ملكت عليه نفسه فى سن الشباب، ولولا موقف أخيها لكانت بصحبته منذ البداية.. وعندما فاتحها فى الأمر، وأبلغت بناتها به، وجدت منهن كل ترحيب، وقابلن موافقتها بكل الحب والرقى والاحترام، فلقد أصر الحبيبان على عقد الزواج علنا بصحبة عائلة كبيرة تدرك معنى «الحلال»، وتعرف مغزى «الإيجابية» فى التصرفات.. واليوم وهما فى هذه المرحلة المتقدمة من العمر، كان لابد أن يقترنا برباط المودة والرحمة، ولم لا والحياة تمر، والواقع يفرض نفسه على الموقف برمته. ولعل قصة صديقتى وزوجها تكون بمثابة دعوة الى كل من يعترف ب «الإيجابية فى السلوك»، ويكون سيد قراره، بأن يسعى الى قضاء أحلى أيام العمر مع من هم الأقرب إلى عقله وقلبه تحت مسمى «الرباط الشرعي»، لكى لا يكون عبئا أو حملا ثقيلا على أحد، مادامت الظروف مناسبة، والعائلة ناضجة تعى تماما معنى الاحتياج الى صديق وحبيب يهون عليه عذاب الوحدة والغربة إلى آخر العمر. ولكاتبة هذه الرسالة أقول: إنها تجربة رائعة تؤكد للإنسان أنه يستطيع أن يحيا بشكل طبيعى مع شريك له فى الحياة الى آخر العمر، فزواج «الونس» إن صح التعبير حق يكفله الله للرجل والمرأة، إذ إنه سبحانه وتعالى لم يحرم زواج الأرامل، ولا المطلقين، وليس معنى أن يصبح الرجل مسنا أو المرأة عجوزا أن تتوقف حياة أى منهما، ويظل قابعا فى حجرته أو على سريره فى انتظار الموت، فما دامت الحياة تدب فيه فمن حقه أن يتزوج من شخص يكمل معه حياته، ويتخلص به من عذاب الوحدة المريرة، ولا دخل للأبناء بهذا القرار الذى لا يفصل فيه إلا الرجل أو المرأة المسنان، فهما أكثر الناس إحساسا بنفسيهما، واذا أراد أن يكمل أى منهما حياته بمفرده فله القرار، فكل إنسان على نفسه بصير، ويدرك ما يحتاجه، وما سوف يترتب على قراره من تداعيات.. ولا شك أن تجربة صديقتك نموذج جميل للحب والتفانى فى خدمة الأسرة، وإدراك مسئوليات الأم التى كان بإمكانها أن تتزوج فى سن الشباب بعد انفصالها عن زوجها الأول، ولكنها آثرت أن تربى بناتها، فكان صنيعها الممتاز بثلاث بنات فضليات أنجبن لها أحفادا يملأون حياتها، بل وصار لهم جد يحنو عليهم، وينظر إلى بناتها كأنهن بناته، وهذا هو غاية ما كانت تتمناه هذه المرأة الفاضلة.. ولعل تجربتها يستفيد بها من يخشون الإقدام على هذه الخطوة تحسبا لكلام الناس، ورفض الأبناء، وليأخذ كل مسن أو عجوز قراره بنفسه، وعلى الجميع أن يؤازره فى سن الجلال والاحترام.