الزيارة في الشتاء لها مذاق خاص، وتجلب متعة إضافية، فما إن تطأ قدماك المكان، حتي يسري في جسدك إحساس بالدفء، يأتي من داخلك مصحوبا بشعور استثنائي، براحة لا تعرف مثلها في أي مكان آخر، وحين تهم بالرحيل، بعد أن تقضي وقتك المقسوم، ستجد روحك قد حصلت، علي بعض «الزاد»،الذي يمكن أن تشبع به جزءا من خوائها. مازال صدي صوته يتردد، أقوي من كل الأصوات المسموعة حولك، ومازالت ملامحه الطيبة حاضرة، تعلوها ابتسامة مضيئة، تبهجك وتطمئنك وتدعو لك، وترفع فوق رأسك سحابة ناعمة، تحميك فى أيام الصيف، من سعير النار، وتمسح على رأسك وبدنك في أيام الشتاء، برذاذ من عطر السماء. الزيارة تأتي بلا موعد، وبلا مناسبة أو إذن،. البداية نداء داخلي، لا تستطيع أن تقاومه، يقود خطاك إلي طريق، يعرفه قلبك جيدا، بعد أن مشاه كثيرا، ولم يكن في حسبانه، أنه سوف يداوم علي الزيارة، حين وقع الفراق منذ سنوات. أجمل الزيارات تلك التي لا تطرق فيها أبوابا، ولا تنتظر أن يأذن لك أحد بالدخول، أو أن يقتضي الأمر أن تنتظر، أو أن تسود الأجواء الكلفة والافتعال والمجاملة، وأن تكتفي فيها بما يجود به عليك مضيفك، دون أن تطلب المزيد، واعلم أن زيارتك الأخيرة كانت مثيرة، وأنك كما أخبرتنى كنت موعودا بصلاة، لم تؤدها من قبل، توضأت فيها بماء السماء، فما إن جلست علي المقعد الحجري، في المواجهة مباشرة، أمام الباب الصغير، الذي لا يفتح إلا بحساب، وأسندت ظهرك المتعب إلي جدار قديم، لا تعرف من يقيم خلفه، حتي بدأت السماء تلقي بدفقات ماء متقطعة، راحت تتسرب عبر الملابس الثقيلة، إلي الجسد فيزداد دفئا، وتتسلل إلى روحك عبر «مسام» الجلد، فتزيح كل «أدران السفر»، لدرجة تشعر معها باكتمال طهارتك، بعد أن توضأت جسدا وروحا، فتشرع في صلاة طويلة تحت المطر، عندما تختتمها، وتعود إلي مقعدك الحجري مرة أخري، تستولي عليك مشاعر بالراحة والسعادة، فتغمض عينيك غافيا، كأنك في حلم جميل، يأتيك فيه الصوت الذي هو أقوي من كل الأصوات، يسألك مبديا خوفه عليك: لماذا تأتي في الشتاء؟ أخشي عليك من البرد والمطر، فتجيبه مطمئنا: أحب الشتاء، وأحب المطر، وأحبك أكثر. في الختام.. يقول الأديب التركي أورهان باموق: «يبدأ موت الرجل عند موت أبيه». لمزيد من مقالات محمد حسين