تتدحرج الأيام مثل كرة الثلج في ملعب العمر.. شتاء يأتي, وآخر يرحل.. في كل مرة يفاجئنا طقس التأمل والإنصات بلحن جديد عذب صافي. الهواء نقي.. الغيوم تخفي قمم الجبال العالية.. المدينة الحلم تبدو أنيقة في ثوبها الأبيض الزاهي.. النوافذ يغمرها الندي, وفي الليل تطرق زخات المطر الشرفات.. المارة في الشوارع يحملون المظلات, تبدو خطواتهم راقصة من فرط محاولاتهم تفادي السقوط بسبب دوائر الماء صنيعة المطر. في واحد من أجمل الفصول الأربعة, يقول الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي بودلير: إن الحالمين يحبون الشتاء القاسي, ويتضرعون إلي السماء أن ترسل أقصي ما تستطيع من الثلج والبرد, لإن بهذا تصبح أعشاشهم أكثر دفئا ونعومة. حقا إنه شهر الحالمين والمحبين. نشعر بالدفء لأن الخارج بارد.. كما أنه في كل مرة يتساقط المطر, يمحو طريق العودة إلي الوراء.. شأن الحب, يمحو الخطيئة, وينبت أزهار الأمان وسنابل المودة في هذا العالم الرمادي. إلا أن الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار يري أن الشتاء أقدم الفصول; فهو لا يضفي قدما علي ذكرياتنا وحسب, آخذا إيانا إلي الماضي البعيد, بل إنه, في الأيام الثلجية, يصبح البيت أيضا قديما, كأنه عاش عبر القرون الماضية. ربما إضفاء روح القدم عليه, هو سبب إحساسنا بالحنين والشوق إليه. عالم خال من الألوان والزيف, أبدع الشاعر محمود درويش في وصفه, قائلا: تكثف الهواء الأبيض, وتباطأ وانتشر كالقطن المنفوش في الفضاء. وحين لامس جسد الليل أضاءه من كل ناحية ثلج(...) وأشكر الريح التي جاءت بالثلج من أقاليم لا تصل إليها إلا الروح. لو كنت غيري لاجتهدت في وصف الثلج. لكني إذ أنخطف في هذا العشب الكوني الأبيض, أتخفف من نفسي فلا أكون أنا, ولا أكون غيري, فكلانا ضيفان علي جوهر أبيض, مرئي وواسع التأويل. قيثارة الحب إرتبط الشتاء في أذهاننا جميعا, بصوت السيدة فيروز, سيدة كل العصور. ما أجمله من صوت مع قهوة الصباح وأنت تتأمل قطرات الندي علي زجاج النافذة!.. لقد صارت أغنيتها رجعت الشتوية هي اعلان بداية حقيقية له عند الكثيريين. ويذوب في النفس صوتها الملائكي حين تنادي صديق طفولتها شادي الذي ابتلعته الحرب الطائفية. تناجيه, دون جدوي!.. والتلج اجي و راح التلج.. عشرين مرة اجي و راح الثلج.. وأنا صرت إكبر.. وشادي بعد صغير, عم يلعب بالتلج. أحبته في كل فصول العام, حتي بأيام البرد أيام الشتا, والرصيف بحيرة والشارع غريق تخرج من بيتها العتيق لتنتظر حبيبها علي الطريق.. لكنه يروح وينساها, وتفضل بالشتا وحيدة. ما أصعبها أوقات الإنتظار حيث الغربة والبرودة تملأ النفس وتعتصرها! لسنوات طوال, ظلت قيثارة الحب فيروز تشدو بكلمات الأخوين رحباني سيمفونيات رائعة عن حكايات الحالمين والعاشقين في موسم الشتاء. من ناحية أخري, تروي بصوتها الدافيء الأرض الباردة, فتنمو البراعم وتجلب معها الخير إلي البلاد.. عندما تدندن مع الكورال: شتي يا دنيي تيزيد موسمنا ويحلي,, تدفق مي و زرع جديد بحقلتنا يعلي. وقد تفوقت علي جميع المطربين في تقديم تراتيل عيد الميلاد, وجعلها أيقونة الإحتفالات وزينة ميلاد السلام والمحبة: تلج تلج عم بتشتي الدنيي تلج, والنجمات حيرانين وزهور الطرقات بردانيين, والغيمات تعبانين عالتلة خيمات مضويين, ومغارة سهرانه فيها طفل صغير, بعيونو الحلياني حب كتير كتير. مدارات ملونة ترسمها السيدة فيروز بصوتها في هذا الفضاء الأبيض البارد.. تغتال فيه صمت الليل وسكون الثلج بنغمات ساحرة تشيع حب وفرح لا نهائي.. معبأ بصورنا القديمة, وأسطواناتنا, وأجمل ذكرياتنا. الرقص تحت المطر لا يتوقف المطر, كذلك قصص الغرام تحته.. لا تتوقف. متأججة بعشقها.. مشتعلة بحرائق جنون الحب.. تحكي الفنانة إليسا ذكرياتها مع الحبيب الذي كانت تجد عنده ملاذها وأمانها, فتشدو: كنا في أواخر الشتا قبل اللي فات, زي اليومين دول عشنا مع بعض حكايات, أنا كنت لما أحب أتونس معاه, أنا كنت باخد بعضي وأروح له من سكات. كذلك, نجحت الفنانة لطيفة التونسية في طرح تجربة جديدة متميزة, تغنت فيها باللهجة اللبنانية- لأول مرة- من أشعار زياد الرحباني, تقول كلماتها: دورت أيام الشتي غير الشتي ما لقيت.. بقيوا يللي بقيوا وأنا لوحدي بقيت.. يا ريت هالعمر الهرب يرجع شو ما صار.. لا بعود ياخدني العتب لا أزعل ولا غار.. وحدي باقعد شعل حطب وجي بوج النار.. خدني معك يا حب شئ مشوار. من ناحية أخري, أقدم الكثير من المطربين الشباب علي تصوير أغانيهم وسط الجليد, بهدف تجسيد برودة المشاعر التي عصفت بهم بعد فراق الحبيب. في مقدمة هؤلاء, نجد المطرب عمرو دياب وسط هذا الخواء الأبيض المريع الشاسع يبكي غياب حبيبه في أغنيته أنا عايش ومش عايش, كذلك فعل محمد حماقي في أغنيته افتكرت. وكعادتها تحلق في السماء وسط النجوم.. راحت النجمة ماجدة الرومي تقدم قصيدة نزار قباني مع الجريدة, بعد أن قامت بتصوير أحداثها بالكامل تحت المطر. كانت تجلس في المقهي مع صديقاتها, وتتأمل فتي أحلامها- دون أن يراها- وقد أخرج من معطفه الجريدة وعلبة الثقاب.. وطوال الأغنية, تستطرد في وصف مشاعرها تجاهه.. عبثا حاولت لفت إنتباهه!.. حتي يتناول المعطف من أمامها, ويغيب في الزحام, مخلفا وراءه الجريدة وحيدة مثلها. سعيدة بحبه.. محمومة بعشقه.. تهيم في الشوارع تحت المطر.. قلبها النابض يجعلها ترقص كالفراشات. أجمل الفصول معبأة بالمياه, تمطر السحب لتلهم الفنانين روائع الأعمال. في الغرب أيضا, تغني الكثيرون من المطربين بجمال الشتاء بإعتباره موسم الرومانسية والحب.. وإن كانت معظم الأغاني يغلب عليها طابع الإحتفالات بالكريسماس, وميلاد السيد المسيح الذي يتزامن مع قدوم هذا الفصل من السنة. تتألق المطربة المصرية-الإيطالية داليدا إحتفالا بالعام الجديد, وتشدو بالفرنسية: عاشت رياح فصل الشتاء, التي تهب وتعصف بشجر الميلاد الأخضر الكبير.. كرات الثلج تتساقط.. الظل يراقصه لهيب النار.. والإحتفالات والزينة تضيء البيوت.. عام ميلاد سعيد, يحمل ذكريات الأمس إلي الأطفال الكبار في السن. كذلك, شدت مطربة فرنسا الأولي ميراي ماتيو بالعديد من الأغنيات له, كان أشهرها( أحب الشتاء جدا).. وتقول فيها: في الخارج, الثلوج تتساقط. ونحن نحلم بالبلدان البيضاء حيث يذهب الأطفال للتزلج. سعداء, مترابطين, نقوم بتدفئة أجسامنا علي لهيب الذهب والحب الدافيء.. يحملون أفراحهم وأحزانهم بعد أن ولت أيام الصيف بعيدا... بالقرب منك أحب الشتاء, لا أحد يستطيع أن يأخذك مني.. وضعت كل ذكرياتنا في الأغنية التي أريد أن أعزفها معك علي البيانو. غير أن كونشيرتو الشتاء من موسيقي( الفصول الأربعة) كان هو جوهرة التاج بإعتباره الأجمل عالميا في ذاكرة الموسيقي الكلاسيكية. قام بتأليفه الإيطالي أنطونيو فيفالدي الذي بزغ نجمه في الربع الأخير من عصر الباروك. وقد نجح هذا العمل العبقري في نقل نبض برودة الشتاء ورسم كل تفاصيله بإبداع شديد. ومن المدهش أن نغماته الأوروبية تشابهت مع كلمات شرقية لشاعر تونسي!.. فحين تتأمل صوت الجليد وهو يتشقق تحت قدميك, والرياح وهي تدق أبواب البيوت والشرفات.. تتدافع إلي ذاكرتك- علي الفور- قصيدة أبو القاسم الشابي الشهيرة إرادة الحياة, تحديدا وهو يقول فيها: وأطرقت, أصغي لقصف الرعود وعزف الرياح ووقع المطر(...) يجيء الشتاء, شتاء الضباب, شتاء الثلوج, شتاء المطر.. فينطفيء السحر, سحر الغصون وسحر الزهور وسحر الثمر. إنها إرادة الحياة.. كانت شرقية أو غربية, فإنها الأجمل طالما جاءت في فصل الشتاء.