بدأت الأزمة السياسية الطاحنة التى تشهدها بوروندى تأخذ منعطفا خطيرا، بعد أن تخطى الصراع حدود الحكومة والمعارضة، ليصبح بين الحكومة والاتحاد الأفريقى أيضا، وبخاصة بعد إعلان الأخير فى منتصف الشهر الماضى عزمه إرسال بعثة لحفظ السلام فى بوروندي، وهو ما اعتبره الرئيس البوروندى بيير نيكورونزيزا تدخلا سافرا فى شئون بلاده وغزوا لأراضيها، بل وهدد بمحاربة أى قوات يرسلها الاتحاد، كما رفض الدخول فى محادثات سلام مع المعارضة، بحجة أن من بين المشاركين مخططى الانقلاب الفاشل الذى وقع فى مايو الماضي. وجاء هذا المشهد المرتبك بعد تصاعد أعمال العنف مجددا فى العاصمة بوجمبورا خلال الستة أشهر الماضية، والتى أشعلتها سلسلة من الهجمات المسلحة التى استهدفت ثكنات عسكرية للجيش. ومما زاد الأمر تعقيدا، الروايات التى تداولتها وسائل الإعلام الأجنبية المختلفة على لسان بعض السكان المحليين من أن قتلى الاشتباكات بين الجماعات المسلحة وقوات الأمن البوروندية ليسوا جميعا من مرتكبى الهجمات، بل من بينهم أطفال وأفراد عزل من السلاح، فى حين نفت الشرطة استهداف الأبرياء، وهو ما أشعل نار الصراع من جديد بين الجماعات المعارضة لحكومة الرئيس البوروندى من جهة والحكومة البوروندية من جهة أخرى، وأعاد إلى الأذهان الحرب الأهلية التى شهدتها البلاد بين عامى 1993 و2005. وتصف يولاند بوكا الباحثة فى معهد دراسات الأمن الأفريقى المشهد الحالى فى تلك الدولة التى تنتمى إلى دول حوض النيل بعبارة قصيرة هى : "التاريخ يعيد نفسه فى بوروندي"، حيث شهدت البلاد عملية إبادة جماعية قبل نحو عشرين عاما. فقد عادت بوروندي، ثانى أفقر دولة فى العالم، بالقطار السياسى إلى الوراء لتذكرنا بالعنف السياسى الذى ظهر فى الأفق فى أبريل الماضى بعد إعلان نكورونزيزا ترشحه لفترة ولاية ثالثة والمظاهرات الحاشدة المناهضة لهذا القرار الذى اعتبرته المعارضة مخالفا للدستور وانتهاكا صارخا لاتفاق سلام أسدل ستارا على الحرب الأهلية التى راح ضحيتها نحو 300 ألف شخص. ففى مايو الماضي، وافقت المحكمة الدستورية على ترشيح نكورونزيزا، مما أثار غضب المعارضة ووقعت على أثرها محاولة انقلاب فاشلة قادها جودفرويد نيومبارى رئيس جهاز المخابرات السابق ضد الرئيس البوروندي، وبعدها أعلنت بوروندى فى يوليو الماضى فوز نكورونزيزا فى الانتخابات الرئاسية، وخلال هذه الفترة، فر الآلاف هربا من العنف المستشرى فى البلاد بعد مقتل ما لا يقل عن 240 شخصا فى أعمال عنف متفرقة، إلى جانب تشريد أكثر من 79 ألفا، وذلك وفقا لإحصائيات مركز رصد النزوح الداخلى فى أغسطس الماضي. وعلى مدى الأشهر الستة الماضية، أصبحت عمليات العنف حدثا يوميا، حتى جاء التطور الأسوأ يوم 12 من الشهر الماضى، بالهجمات الدامية التى استهدفت معسكرات الجيش، والتى اندلعت بعدها اشتباكات بين قوات الجيش وجماعات مسلحة مجهولة فى عدد من أحياء العاصمة بوجمبورا، مما أسفر عن مقتل أكثر من 90 شخصا من بينهم منفذو الهجمات، إلى جانب عدد من عناصر الشرطة والجيش البوروندى واعتقال العشرات، ليستيقظ سكان العاصمة على مشهد مروع للشوارع التى تمتليء بالجثث مكتوفة الأيدى ومضروبة بالرصاص فى الرؤوس. ومنذ ذلك الوقت، تصاعدت وتيرة أعمال العنف، مما دفع سكان محليين فى بوروندى إلى توجيه نداء استغاثة للمجتمع الدولي، عبر وسائل إعلام مختلفة، لمد يد العون لهم لإبعاد شبح الإبادة الجماعية عن البلد بعد أن تردد بين السكان أن قوات الأمن تقتل رجالا عزلا من السلاح بهدف قمع الاحتجاجات على قرار الرئيس بيير نكورونزيزا البقاء فى السلطة، وهنا سارعت وسائل الإعلام الأجنبية "كعادتها" إلى تصعيد الأمور خلال تعاملها مع قضايا النزاعات فى أفريقيا من جانب واحد. وفى تحليله لهذا المشهد، حذر أداما ديانج المستشار الخاص للأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية من أن الوضع فى بوروندى يخرج الآن عن نطاق السيطرة، مشيرا إلى أن الإبادة الجماعية لن تحدث غدا فى بوروندي، لكن هناك خطر فعلى إذا لم يتوقف العنف الذى قد يؤدى إلى نشوب حرب أهلية، الأمر الذى دفع الاتحاد الأفريقى إلى ضرورة التدخل بإعلان عزمه إرسال بعثة قوامها 5 آلاف جندى لمدة 6 أشهر قابلة للتجديد لحفظ السلام فى بوروندى ومنح الحكومة مهلة 96 ساعة لقبول المهمة، بل تصاعدت وتيرة الأحداث بعد أن هدد الاتحاد الأفريقى بوروندى بأنها إذا رفضت فسيتخذ الإجراءات اللازمة بموجب المادة 4 من القانون التأسيسي، ورغم أن موقف بوروندى يبدو واضحا تماما فى رفض أى قوات داخل أراضيها، إلا أن الاتحاد الأفريقى وبلهجة تهديدية قال إنه لا يزال ينتظر الموافقة والرد. ونظرا لأن الحل السياسى لا يزال ممكنا فى بوروندي، ولأن انتشالها من مأزقها الحالى لن يتم إلا بسواعد أبنائها، فلا مفر أمام الرئيس البوروندى سوى فتح حوار شامل مع المعارضة قبل أن يبلغ الصراع الدائر فى البلاد ذروته ويتحول إلى إبادة جماعية وحرب مع دول أخرى، وحينئذ لن يستطيع أحد التحكم فى زمام الأمور، فى الوقت الذى يكشر فيه الإرهاب عن أنيابه لدول القارة السمراء، مستغلا النزاعات والحروب الأهلية والفتن الطائفية فى شمال وغرب أفريقيا لاستقطاب الشباب الهارب من عنف الحكومات وللتغلغل وزرع خلايا إرهابية مسرطنة تستفحل ربوعها وتلتحم مع الجماعات الإرهابية الأخرى، لا سيما مع تصاعد نجم تنظيم داعش الإرهابى فى ليبيا والعراق وسوريا وإعلان جماعات مالى وبوكو حرام النيجيرية مبايعتها لزعيم داعش أبو بكر البغدادي.