فى عام 2008 تعهد أوباما خلال حملته الانتخابية باتخاذ مسار جديد تماما فى سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية, واصفا تلك السياسة بانها ستجعل أمريكا "تواجه تحديات القرن ال21 كما واجهت من قبل تحديات القرن العشرين"ولكن بأى معيار يمكننا القول أن العالم اصبح أقل تهديدا عما كان عليه قبل عام 2008؟ مع تدهور أحداث العالم من حولنا بشكل سريع ومتلاحق, يبدو أن الكثيرين من سكان كوكب الأرض, بما فيهم الأمريكيون أنفسهم, يلقون باللوم كاملا على السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ بداية القرن الحادى والعشرين, وبشكل أكثر تحديدا على السياسة الخارجية للرئيس الامريكى الحالى التى ساهمت على تصاعد وتيرة هذا الانهيار العالمى, والذى يحمله الخبراء والمحللون مسئولية فشل رسم سياسة خارجية ناجحة لما من المفترض أن تكون أقوى دولة فى العالم. ووسط تصاعد واضح لحالة من الاستياء الكونى من السياسات الخارجة للادارة الحالية, فقد عكف العديد من الخبراء والاكاديميين الامريكيين على وضع ما اعتبروه خارطة طريق لملامح السياسة الخارجة التى تتيح للولايات المتحدة أن تسحب العالم ونفسها بطبيعة الحال من هذه الهوة التى يتردى فيها الجميع يوما تلو الآخر ومن هذا الكابوس المتواصل الذى نعيشه على مدار السنوات الخمس الاخيرة. وفقا لدراسة قدمها مركز الاتحاد الأمريكى لدراسة الارهاب ومواجهته بجامعة ميريلاند, فانه على الرغم من إدعاءات الادارة الأمريكية الحالية بأن مخاطر الإرهاب قد انحسرت عن الولاياتالمتحدة خلال السنوات الاخيرة, فإن الأمر على أرض الواقع يقول أن عدد الهجمات الإرهابية العالمية والوفيات بسبب الإرهاب قد ارتفعت بشكل غير مسبوق فى السنوات الأخيرة لتصل فى عام 2013 إلى رقم غير مسبوق فى التاريخ الحديث، بعد أن إرتفعت بنسبة 40 فى المئة, وأنه خلال السنوات التالية فإن الإرهاب العالمى لم يتصاعد فقط, بل تفاقمت سلالات منه هى الأعنف على مر التاريخ والأفضل تسليحا والأعلى تمويلا والأصعب فى مواجهته. وفقا للأكاديمى الأمريكى البارز, ويل أنبودن أستاذ قانون الأمن الدولى بكلية ليندن جونسون, فإن موقع أمريكا الجيوسياسى فى العالم قد تدهور أيضا مع تفاقم العنف وتزايد عدم الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا, على نحو أسوأ عشرات المرات عما كان عليه فى عام 2008, الولاياتالمتحدة أيضا أساءت لابرز حلفائها الاستراتيجيين, مصر, وتركت شركاءها فى المنطقة، السعودية والاردن، تحت تهديد إنتشار الإرهابيين غير المسبوق فى كل من سورياوالعراق واليمن, أيضا تركت السياسة الخارجية للإدارة الحالية, نجم الولاياتالمتحدة يتهاوى فى المنطقة فى الوقت الذى تركت فيه نجم إيران يتصاعد, وللمرة الاولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تتجه روسيا إلى تغيير حدود الدول الأوروبية, أما فى آسيا، فإن الصين أصبحت قوى يبدو أن الولاياتالمتحدة غير قادرة على مواجهتها, وأفغانستان تواجه خطر الوقوع مرة أخرى فى حرب أهلية وعودة حكم طالبان بعد إنسحاب القوات الامريكية بكاملها فى عام 2016, فى أمريكا اللاتينية عادت بقوة العصابات الإجرامية لتحتل المشهد فى دول مثل هندوراس والسلفادور وجواتيمالا بسبب فشل الولاياتالمتحدة فى حل أزمات الهجرة غير الشرعية من هذه الدول, فى الوقت الذى نجحت فيه روسيا فى عقد شراكات إستراتيجية ناجحة مع كل من كوبا وفنزويلا ونيكاراجوا, أما فى افريقيا, وتحديدا فى مالى ونيجيريا, فقد ظهرت جماعات إرهابية أكثر ضراوة من أى وقت سبق, تم تغذيتها بتدفق الأسلحة المهربة من ليبيا والتى حولت منطقة الساحل والصحراء فى إفريقيا إلى حدود جديدة لإرهاب عالمى يصعب احتواؤه. وسط كل هذا لا يمكن حتى لأكثر الخبراء والمحللين الإستراتيجيين الأمريكيين فخرا إلا الإعتراف بتضاؤل مكانة ونفوذ الولاياتالمتحدة فى العالم, وبأن إعتماد حلفائها التقليديين عليها أصبح نوعا من المقامرة عالية المخاطر. وزير الدفاع السابق لأقوى دولة فى العالم اعترف " لقد إنفجر العالم فى كل زاوية به"، أما رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق الجنرال مارتن ديمبسى، فقد إعترف فى شهادته أمام مجلس الشيوخ "أشهد شخصيا بأن العالم أصبح أكثر خطورة مما كان عليه فى أى وقت مضى". ووسط هذا المشهد المتردى, نجد أن المرشحين البارزين لقيادة الولاياتالمتحدة حتى الأن, يصفهم العديد من المحللين الأمريكيين بأنهم ليسوا سوى مجموعة من الهواة, وأن لا أحد فيهم بإمكانه أن يتبنى سياسة خارجية يمكنها أن تخرج الولاياتالمتحدة والعالم من هذا المستنقع المرعب التى تتردى فيه, وفى هذا السياق ينصح ستفين والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، المرشحين الحاليين بعدد من المعايير الرئيسية التى يجب تبنيها فى رسم السياسىة الخارجية الأمريكية فى مرحلة ما بعد أوباما, أبرزها الإعتراف والإيمان بأن الأمن القومى للدول الاخرى هو أولوية أمريكية تماما كما هو أولوية حماية الأمن القومى الأمريكى ذاته, وأنه لا يكفى فقط الفخر بحماية الداخل الأمريكى من مخاطر الإرهاب فى الوقت الذى تترك فيه الولاياتالمتحدة العالم يواجه التهديدات الأمنية بدم بارد, وعلى الرئيس الأمريكى القادم ببساطة أن يدرك أن حماية أمن الدول الأخرى هو المصدر الرئيسى للنفوذ الأمريكى, وأن العالم لن يصمت مرة أخرى على متابعة رئيس أمريكا القادم وهو يعرض أمن بقية شعوب الأرض للخطر, وأنه لن يصمت مرة أخرى لا على مغامرة عسكرية مثل الحرب على العراق أو يصمت على تنامى قوة وسطوة التنظيمات الإرهابية, فرنسا على سبيل المثال، كما يؤكد والت، لن "تسامح" أمريكا مرة أخرى اذا تعرضت لهجمات مثل التى وقعت فى باريس فى 13 نوفمبر الماضي.... أصدقاء أمريكا الحاليون لن يكونوا من الغباء لتعريض شعوبهم لمخاطر الإرهاب مرة أخرى اذا وصلوا إلى يقين بأن هم الولاياتالمتحدة الوحيد هو الحفاظ على أمنها الداخلى فقط.. نصيحة أخرى يقدمها والت للرئيس القادم, هى إدراكه أن القوة العسكرية الحديثة لا يمكنها دوما أن تصنع نتائج حاسمة, بل أن نتائجها عادة لا يمكن التنبؤ بها, انها "صندوق باندورا" الذى يطلق العنان لشياطين لا يمكن تصورهم, تماما كما حدث بعد حرب العراق المشئومة, وشياطين الفوضى التى أصبحت تعربد فى الشرق الأوسط الآن. أيضا ينصح والت الرئيس القادم أن يأخذ حذره من هذا المزيج القاتل المكون من الخوف والغطرسة, الذى يرى باختصار أنه السبب وراء كوراث السياسة الخارجية الأمريكية على مدار السنوات العشرين الماضية, والذى وصل إلى ذروته فى قرار الإحتلال الأمريكى للعراق ردا على أحداث 11 سبتمبر, هذا الخطأ التاريخى الذى أوصل العالم إلى ما هو فيه الأن من شيوع الفوضى, أنه المزيج الذى ينتج عنه عادة الحروب الحمقاء التى تودى بالعالم إلى التهلكة.