إذا ما تأملنا جانبا من حياتنا اليومية لوجدنا أن حيزا كبيرا من الحديث يتطرق إلي الانتخابات الرئاسية. وقد تسمع من يسألك أو يسأل غيرك عن اختياره من بين المرشحين للرئاسة ولا تجد إجابات قاطعة إلا في النزر اليسير, مما يعني أن الناس لم يقرروا بعد من الذي سوف يقع عليه الاختيار. وإزاء هذا الموقف قصدت إلي كتابة مقال حول الصفات المثالية للرئيس الذي نريده, ولكني وجدت نفسي مشدودا علي أصداء ما كتبه المفكرون حول الطغاة والطغيان أو عن العدل والصلاح في الحكم إلي الكتابة عن الحاكم أو الرئيس الذي لا نريده. وأحسب أن الوعي بالصورة المتناقضة للرئيس الذي لا نريده, هي التي تمكننا من أن نعرف بحق الرئيس الذي نريده. إن مجتمعات الطغيان أو الاستبداد كما يذهب هيجل بحق هي مجتمعات لا تعرف الحرية لأن الإنسان فيها لا يعرف بوصفه إنسانا حرا, بل بوصفه إنسانا تابعا غير حر. فلا يتمتع بالحرية إلا الحاكم أو الطاغية, ولكن طغيانه يمنعه هو نفسه من أن يكون حرا, حيث يظل أسير شهواته ونزواته وخوفه علي استمرار طغيانه. وفي المقابل يتحدث الفارابي عن الرئيس في الدولة الفاضلة علي أن منزلته كمنزلة القلب من سائر الجسد, وأن صفاته يجب أن تكون مثالية بدءا من سلامة البدن ورجاحة العقل وحتي حب العدل وكراهية الظلم وكرامة النفس والجسارة والإقدام. وعندما نتأمل تاريخنا البعيد والقريب نجد أنفسنا رافضين للطغيان بكل صوره, آملين في ألا نري في رئيسنا القادم أي شكل من أشكال الطغيان أو الاستبداد وأن نراه يأخذ نفسه ويأخذنا معه إلي العالم الرحب للعدالة والحكم الرشيد. إن الشعب يريد أن يتنفس حريته خالصة, ولا يمكن له أن يشم حتي رائحة الحرية إذا ما كان حاكمه طاغية مستبدا; يحول الشعب إلي كيان مهمل لا قيمة له, ويمنع عليه إرادة الفعل ومكنة الممارسة الحرة, ومكنة الحصول علي المعلومات. وإذ يتوق الإنسان المصري إلي هذه الحرية, فإنه يتوق إلي أن ينظر له حكامه علي أنه إنسان له روح وعقل, له ذات يجب أن تكون ذاتا حرة, و أن تتفاعل بوصفها ذاتا خالصة الإنسانية, لا يمارس عليها أحد وصاية ولا سلطة إلا سلطة القانون الذي يخضع له الجميع, ولا يصنفها أحد بأي شكل من أشكال الوصم أو الدمغ أو الإهانة; ولا يباعد أحد بينها وبين تحقيق أهدافها, طالما هي أهداف مشروعة, ولا يباعد أحد بينها وبين الوطن, ولا يطردها أحد خارج دائرة الفعل والحركة فتصبح مهمشة طريدة.
وإذ تسعي الذات إلي أن تمتلك حريتها علي هذا النحو, فإنها لا تريد لمن يحكمها أن ينأي بجانبه عنها, أو أن يسيج نفسه بسياج أمني من فرط خوف أو من فرط سلطة; أو أن يضع حوله بطانة فاسدة تبعده عن شعبه. إن الحاكم الرئيس هو عقل المجتمع, فمنزلة الرئيس هي منزلة القلب من الجسد, وهو الأكثر وعيا بمطالب الشعب واحتياجاته, وهو المعبر عن روح الأمة وطموحاتها, وهو يعجز عن أن يكون كذلك إذا ما نأي بجانبه, وباعد بين ذاته وعقله وروحه وبين ذات الشعب وعقله وروحه. فالنهضة الحقيقية لا تتحقق إلا باندماج الروح والذات والعقل في عقل واحد وذات واحدة وروح واحدة هي روح الأمة المتوثبة إلي نهضة حقيقية.
وإذ يدمج الحاكم الرئيس نفسه في هموم الشعب وتطلعاته, فإن الشعب لا يريده رجلا أميز منه. فهو لا يريده رئيسا في قلبه مرض يمد بصره إلي ثروة الشعب, ويوسع من نفوذ أهله وذويه ليأخذوا ما لا حق لهم فيه, ويفتح الطريق علي مصراعيه أمام الفاسدين, ويوصده أمام المواطنين الشرفاء الذين لا يريدون إلا وجه الوطن. وهم بذلك لا يريدونه حاكما ظالما يضرب عرض الحائط بكل أسس العدل والمساواة; غير عابئ بكلمات الفلاح الفصيح التي دونها منذ آلاف السنين والتي تذكر الحاكم بأن يعدل ميزانه: كن ميزانا لايميل, كن ميزانا لا يختل. وإذا ما عدل الحاكم فإنه يكون صادقا مع نفسه وشعبه, فالشعب لا يريد حاكما يبني الدولة في الهواء, في خطاب أجوف لا معني له ولا مضمون. فيتحدث عن العدل والمساواة والحرية والتنمية والديمقراطية ونظافة اليد والشفافية دون أن نري علي أرض الواقع أيا من هذه القيم متحققا; كما لا يريد حاكما يقدم وعودا دون أن يحقق منها شيئا; فيحدث شعبه عن كل أنواع الثورات: ثورة خضراء, وثورة فكرية, دون أن تكون هناك ثورة في أي شيء; أو أن يتحدث عن مشروعات عملاقة قومية تنفق فيها المليارات دون عائد. فتبقي الحياة ساكنة, والناس في مواضعهم لا يتحركون, ولا تنتج الممارسات السياسية والفكر السياسي إلا سياسات عرجاء وحداثة برانية مبطوطة. إن مصلحة الشعب في حاكمه كما يقول ابن خلدون ليست في ذاته أو جسمه, من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جسمانه أو اتساع علمه أو جودة خطه أو ثقوب ذهنه وإنما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم وتتمثل هذه الإضافة في أن يكون لدي الحاكم القدرة علي التدبر والإدارة ومراعاة مصلحة الشعب أو ما أطلق عليه ابن خلدون حسن الملكة التي تجعله رفيقا غير باطش ولا قاهر ودائم المدافعة عن شعبه والنظر في معاشه. فالبطش والخوف يزرع الخوف والذل ويجعل الناس يميلون إلي المكر والخديعة فتفسد بصائرهم وأخلاقهم. إننا نقرأ هذا الرأي لمفكر كتب في القرن الرابع عشر, وقد أشرنا من قبل لمفكرين كتبوا قبل ذلك وبعد ذلك. أليس حريا بنا أن نسأل ونحن ندخل في الحقبة الثانية من القرن الحادي والعشرين نقول بأعلي صوت لنا: لا نريد الرئيس الطاغية المستبد, وذلك لكي نمتلك المكنة لكي نختار الرئيس العادل الكاره للظلم الكبير النفس المحب للكرامة الجسور المقدام الذي يعيش في قلب شعبه فيكون بالنسبة إليهم كموقع القلب من الجسد كما يقول الفارابي أو يكون إليهم كموقع العقل من الجسد كما يقول أفلاطون. المزيد من مقالات د.احمد زايد