د. فاروق أبوزيد: الأهرام صمدت وسط حدوث الأزمات في الوقت الذي توقفت فيه صحف أخري محمد جبريل: الصدي الذي أرجوه لا يتحقق إلا عندما أكتب في الأهرام وأنشر رواياتي في ملحق الجمعة به د. مراد وهبة: علي الأهرام وهو يحتفل بمرور140 عاما علي تأسيسها مواجهة المأزق المزدوج د. ليلي عبدالمجيد: الأهرام أول من خصص صفحة للرأي ومنبرا للحوار.. أرجو استمرار التمسك والحفاظ علي الشخصية الصحفية المميزة للأهرام
هل يمثل الأهرام حقا ديوان الحياة المعاصرة كما أطلق عليها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين؟ إن عمر مؤسسة الأهرام يتجاوز أعمار دول, تحاول أن يكون لها دور ما هي ببالغة إياه, ومكانة هي أبعد عن أن تنالها, وتحاول عبثا أن تناطح مصر رأسا برأس, وهي لا تكاد تري علي الخريطة إلا بمجهر..لا يزال يصدر منذ140 عاما, لم يتوقف يوما عن الصدور, مرآة لكل ما يحدث في مجتمعها, عاكسة لما يحصل في بيئتها, تشرق إذا الشمس أشرقت, وتطلع إذا الصبح تنفس, تزداد وهجا وألقا كلما امتد به الزمن, وتقدم بها العمر.. ريحانة الصحف وأريجها, وعبير الصحافة ونسيمها, وأكثرها تأثيرا من بينها, درة تاجها, ومفرق رأسها.. كتب لها أساطين الأدب واللغة, وجهابذة القانون والاقتصاد, وعلماء النفس والاجتماع, كل يدلي بدلوه, ويسهم بسهمه, لا يبغون إلا صلاح المجتمع وإصلاحه, ورخاء الوطن وازدهاره.. فلا غرو أن يتفاخر بها أبناؤها, ويباهي بها المنتمون إليها, ويرددون في كل واد وناد نحن أهراميون ولا فخر. في السطور القادمة, نستعرض بعضا مما قيل في الأهرام من الكتاب والباحثين. ................................................................ . د. مراد وهبة, أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس, رئيس منتدي ابن رشد: علاقتي بجريدة الأهرام محكومة بعلاقتي بالدور السادس, وهو الدور الذي يمكن أن يقال عنه إنه دور التنوير, حيث كانت مجلة الطليعة برئاسة لطفي الخولي ومجلة السياسة الدولية بقيادة بطرس غالي, وكبار التنويريين, ويأتي في مقدمتهم توفيق الحكيم, وحسين فوزي, ويشاركهما في الدور الرابع نجيب محفوظ, ولويس عوض. وقد تميزت مجلة الطليعة بأن صاحب إصدارها هو الرئيس جمال عبد الناصر, وبأنها كانت موضع لقاءات مع قادة منظمة التحرير الفلسطينية بحكم أن لطفي الخولي كان المستشار السياسي للرئيس عرفات. وكنت في حينها مشرفا علي ملحق الفلسفة والعلم بمجلة الطليعة, وكانت الغاية منه بث روح التنوير. وفي الحوار الذي نظمته مجلة الطليعة, وأجرته مع توفيق الحكيم, ابتداء من ديسمبر1974 إلي يونيو1975, كلفت بكتابة ورقة عمل عن وثائق ثورة يوليو, وجاء فيها أننا مطالبون بضرورة تفجير ثورة ثقافية ذات أساسين: تحرير العقل من الأوهام, والتزام العقل بتغيير الواقع. وقد استمتع توفيق الحكيم بالفكرة فاستطرد قائلا: نحن ارتددنا إلي الوراء من بعد العشرينيات والثلاثينيات, إذ ثمة محاولة لجرجرتنا إلي رجعية دينية خرافية لا تتفق مع جوهر الدين, لأنها تلغي العقل تماما, وأن ما تقوله هذه القوي المتخلفة التي تتستر باسم الدين تذكرني بالمقالات التي كتبتها في عام1939 ووجهتها إلي فضيلة شيخ الأزهر, لأنه كان يتدخل في حرية الفكر. وأظن أن جريدة الأهرام وهي تحتفل بمرور140 عاما علي تأسيسها تواجه المأزق نفسه الذي كانت تواجهه في عام1939, ولهذا فأنا أظن أنها في حاجة اليوم إلي تحليل ونقد هذا المأزق المزدوج, حتي لا يتكرر مرة ثالثة في مستقبل الأيام. محمد جبريل, الروائي الكبير: يرتبط الأهرام في ذاكرتي بوقفتي كل صباح في الساعة السادسة أمام بيتي أنتظر بشغف ونهم قدوم بائع الصحف, وذلك للحصول علي نسختي من الأهرام قبل أن يفك عنها الرباط, لأقرأ روايات نجيب محفوظ الثلاث اللص والكلاب, الطريق, الشحات, وكان نجيب محفوظ بالنسبة لي أبا ومعلما, وكنت أغالب النوم في عيني لأستكمل قراءة رواية من هذه الروايات الثلاث. أنا أكتب وأنشر رواياتي في العديد من الصحف والدوريات علي امتداد الوطن العربي, وأعترف أن الصدي الذي أرجوه لا يتحقق إلا عندما أكتب في الأهرام, وأنشر رواياتي في ملحق الجمعة به, فالأهرام مختلف عن باقي الصحف لا ريب في ذلك. د.ليلي عبد المجيد, أستاذ الإعلام, العميد السابق لإعلام القاهرة: أود أن أشير إلي الفترة التي أجريت عليها دراسات أكاديمية وهي ما بين1957 و1977, وأود التركيز علي استمرار واستقرار الأهرام لمدة140 سنة حتي الآن, وأقول إن السبب الرئيسي- إلي جانب البنية التحتية والبناء المؤسسي- هو أن الأهرام فتح صفحاته لكل الآراء والتيارات دون التحزب لفكر واحد, سواء قبل أو بعد الثورة, أي أنه كان ولا يزال يتمتع بالاستقلالية, وبالتالي فهو معتدل بهذا المعني ومحافظ لالتزامه بالمعايير المهنية الصحفية. ومن دراستي, فإن الأهرام أول من خصص صفحة للرأي ومنبرا للحوار, ثم صفحة للندوة لمناقشة القضايا المختلفة, إلي جانب استقطاب مجموعة من المفكرين والمثقفين من تيارات مختلفة, والفصل بين الخبر والرأي, بالإضافة إلي التطوير من خلال المجموعة الشابة المؤهلة التي التحقت بالأهرام في أواخر الخمسينيات, ثم ما بعد ذلك, مما دعم وجود البنية البشرية. أرجو استمرار التمسك والحفاظ علي الشخصية الصحفية المميزة للأهرام وعراقته مع مواكبة التطورات, وأن يظل الأهرام منبرا مفتوحا لكافة التيارات الفكرية في المجتمع. د. فاروق أبوزيد, أستاذ الإعلام, العميد السابق لإعلام القاهرة: الأهرام صمد وسط حدوث الأزمات في الوقت الذي تخلت فيه صحف أخري وتوقفت, وأيضا لأن الصحيفة كانت- من وجهة نظري- محافظة. فالصحف إما أن تكون شعبية, أومعتدلة وسطية, أومحافظة, وهكذا الأهرام صحيفة محافظة مثل التايمز اللندنية, واللموند الفرنسية.. وهذه صحف لها شروط في الكتابة الصحفية, والإخراج الصحفي, وطريقة تناول القضايا بموضوعية, وعرض الرأي والرأي الآخر, وهذه من سمات الصحيفة المحافظة. والحقيقة أن الأهرام احتفظ بهذه الشخصية المحافظة فحققت له الاستمرار والاستقرار, والبعد عن التيارات المختلفة في المجتمع. وبعد قانون تنظيم الصحافة عام1960, وصارت الصحف متشابهة, خاصة في صفحاتها الأولي, فإن الأهرام حافظ علي بعض ظواهر الشخصية المحافظة في تناول ومعالجة الموضوعات بأكبر قدر ممكن من الموضوعية. أريد التركيز علي الدور التنويري للأهرام, وهذا ميزة له, لأنه كان دائما سابقا للمجتمع في طرح الأفكار, إذ كان يعتمد علي أبرز الموهوبين في الفكر, والإبداع, والنقد, وبالتالي كان هو المعبر عن النهضة الفكرية في مصر, ويلعب الدور التنويري منذ بداياته إلي العصر الناصري وحتي الآن. وخلال ذلك, مارس دورا مهما في تحرير المرأة, وفي مقاومة الفتن الطائفية منذ الفتنة الأولي سنة1911 حتي الآن. وإلي جانب ذلك, برز في مجالات مهمة لأفرع العمل الصحفي وتطوير المهنة. مثلا, فإن أول حديث صحفي كان في الأهرام, وهو الحديث الذي أجراه سليم تقلا مع الخديو إسماعيل, وأول رسالة صحفية من الخارج كانت أيضا في الأهرام, وكان صاحبها أيضا سليم تقلا, عندما سافر لتغطية مؤتمر لندن1884 الذي انعقد لمناقشة المسألة الشرقية, فأرسل مجموعة رسائل صحفية من هناك, وكان هذا جديدا علي القارئ المصري. أيضا, كانت الأهرام أول من نشرالتحقيق الصحفي, واهتمت بذلك, وأيضا أول من أدخل التطوير والتحديث التقني, واستيراد واستيعاب التكنولوجيا الحديثة, وتبعته الصحف الأخري, وهذا حتي الآن. والشيء نفسه ينطبق علي التحرير والأبواب الجديدة, والإخراج الصحفي, وغيره مما يجعلنا نقول إنه رائد التجديد الصحفي والتطوير المهني. د. محمود كامل الناقة, أستاذ التربية والمناهج بجامعة عين شمس, رئيس الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس: لا أخلد إلي النوم, ولا آوي إلي فراشي إلا بعد أن أعود إلي الصفحات القديمة من الأهرام, والتي اصفر لونها من فرط قدمها, حيث كان عمالقة الأدب واللغة يكتبون أمثال طه حسين, وتوفيق الحكيم, ويوسف إدريس, وزكي نجيب محمود, وغيرهم من القامات مشاعل الفكر, الذين أثروا الثقافة في مختلف مناحيها وألوانها. د. زين عبدالهادي, رئيس دار الكتب والوثائق القومية سابقا, أستاذ الوثائق والمخطوطات بجامعة القاهرة: الأهرام لم يكن أبدا مجرد صحيفة أدمنت قراءتها كل صباح, الأهرام بالنسبة لي مدينة من العلم, والعمل, والمعرفة والخبرات المتشعبة. في الأهرام في السبعينيات, كنت صبيا أعمل في مطبعة الأهرام, حيث قابلت حسنين هيكل, وكمال الملاخ, وصلاح جاهين, والرجل العظيم صلاح القاضي, صاحب ومؤسس مركز التنظيم والميكروفيلم, الذي تحول بعد ذلك إلي مركز نظم المعلومات. الأهرام أيضا ليس هؤلاء, بل أيضا تلك الأعمال المسلسلة التي نشرت لنجيب محفوظ, ومقالات توفيق الحكيم, كان كل هؤلاء هم الأهرام, ولأتجرأ بعد ذلك لأقرأ طبعته العربية والدولية حين استطعت السفر للخارج, متسلحا بكل هذه الثقافة. كمال الملاخ أهداني كتابه الجميل مراكب الشمس, أتطلع إليه ببشرته الحمراء, وبياض شعره المجعد الطويل من الخلف, وأناقته الباريسية, يجعلني أقرأ عن رحلات ثور هايردال بمراكب الشمس إلي المكسيك عبر البحر المتوسط, واكتشف العمق التاريخي لمصر. صلاح جاهين يهديني الرباعيات لأكتشف جوهر الروح المصرية الذي يعتمد علي الفهلوة, وعلم اللوع, فلا أستطيع أن أنام دون قراءة أسراره التي تركها بين السطور لتحكي عفوية واضطرام واضطراب هذه الروح الفكهة, المزدوجة, اللامبالية. حسنين هيكل الذي كنت أقرأ مقالاته منذ نهاية الستينيات بعد نكسة1967 ولا أكاد أفهم منها شيئا, وأتابع أبي وهو يقرؤها أيضا بنهم, وينتظرها من الجمعة للجمعة, وإيمانه بعبد الناصر بشكل لا يقبل فيه أي جدال من أي شخص من أصدقائه. صلاح القاضي الذي استقبلني بابتسامته الكبيرة وهو يجلس إلي مكتبه في المركز الهائل الذي بني كملحق للأهرام, وكنت قد تخرجت من الثانوية العامة ليدفعني للعمل في مجال المكتبات والمعلومات, وهو يكرر علي مسامعي: لا تدخل قسما آخر في كلية الآداب, فقد كنت أريد دخول قسم الصحافة, كانت نصيحته هي الركيزة التي بنيت عليها حياتي فيما بعد. لا أنسي ذلك اليوم الذي ركبت فيه عربة الجرائد من قسم التوزيع في الأهرام بشارع الجلاء لأخوض واحدة من أحزن مغامراتي إلي بورسعيد أثناء حرب الاستنزاف عام1969, نائما فوق الجرائد لأهبط هناك في شارع الحميدي, فأجد أن المدينة التي أعرفها قد انتهت. لا أنسي أبي الذي عمل بالأهرام25 عاما انتهت بثلاث أزمات قلبية, لكنه عاش وهو يتحدث كل يوم عن عمله هناك في الجراج والتوزيع, وكيف كانت الثقافة تبدأ من هذا المكان في خلف مبني الأهرام الكبير لتجري في جميع الطرقات إلي كل مكان في مصر عبر عرباتها صفراء اللون, تحمل أيضا جرائد الصحف الأخري, هذه هي الأهرام التي عرفتها ومازلت أعرفها. لا أنسي أصدقائي ورؤسائي في الأهرام ممن عملت معهم مثل محمود جعفر, المطرب الكبير الذي كان يعمل رئيسا لقسم الحركة في مركز التنظيم والميكروفيلم, كان صوتا جميلا وحنونا, لكن الوظيفة سحبته من الفن والموهبة, ككل البشر في مصر. الأهرام كان يتواجد علي موائد رمضان هناك في مبني المؤسسة, كيف كبرنا جميعا وقد تعودنا أن نقرأ الأهرام علي عربات الفول في الصباح الباكر وفي الضباب, حين تبدأ القاهرة كلها في الاستيقاظ علي صرخات باعة الصحف بمانشيتات الأهرام, وهم يصيحون بصراحة لهيكل. كيف مات عبد الناصر؟ وكيف تحول مانشيت الأهرام للون الأسود؟ وفي عام73 في نصر أكتوبر العظيم, صدر من الأهرام أكثر من ست طبعات, وكذلك أثناء اتفاقية كامب ديفيد صدرت تقريبا إحدي عشرة طبعة, وهو مايعني أن الأهرام كان يعمل بأساليب جديدة في العمل الصحفي, لم يكن هيكل مجرد قائد لمؤسسة, ولم تكن الأهرام مجرد مؤسسة, بل كانت وستظل دائما هرما رابعا لمصر. ألف مبروك للأهرام مئة وأربعون عاما في خدمة القارئ المصري, وينبوع لا ينضب من الحب والثقافة.