طول عمري بحب الشغل وخصوصا لما يكون في مكان فخم وعظيم زي الأهرام, كنا دايما مش عايزين نروح, وكنت باشتغل من7 الصبح إلي11 بالليل, وكنا بنبات وقت الأحداث زي يوم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر وأيام أحداث الأمن المركزي', بهذه الكلمات وصف دينامو قسم الخدمات بالأهرام عم رجب ابراهيم, علاقة العشق التي تربط بينه وبين المكان, والتي برغم مرور السنين وتغير الأحوال, مازالت تلهب حماسه للعمل والعطاء برغم أنه تجاوز سن المعاش بعدة سنوات. بدأ عمله فيها غلاما يافعا لاتتعدي سنوات عمره الست عشرة إلا أنه ما لبث أن وقع في غرام هذا الصرح العظيم, شكلا ومضمونا. بهره المبني الشامخ بأناقته ونظافته وجماله, وأسره رقي التعامل وعظمة تواضع الكبار من كتاب وصحفيين ومسئوليين إداريين, واندمج سريعا في منظومة عمل تسير بدقة عقارب الساعة. ' لا مجال لأي تأخير, كل وقت محسوب, والشغل شغل'.. تتدفق كلمات عم رجب, الذي عمل في أماكن مختلفة من المؤسسة بداية من كافتيريا الدور الرابع وحتي مكاتب الرؤساء وكبار الصحفيين, بحكايات تصف كواليس وأجواء منظومة عمل محكمة, وعلاقات إنسانية من نوع خاص. قصص كثيرة كنت اقاطعه فيها معلقة دائما: ' يا بختك يا عم رجب' كان لبوفيه الرابع مواعيد معينة يأتي فيها الصحفيون, أو يطلبون الماكولات والمشروبات في مكاتبهم في تلك الأوقات. وكانت الكافتيريا تقدم جاتوه وباتيه وكرواسون من أشهر محلات الحلوي وقتها' لاباس', أما الخبز فكان من محلات واسيلي. يقول عم رجب بفخر:' كنت باعمل' كابتشينو' و'اسبرسو' والفنجان بخمسة تعريفة.' وكان للصحفيين كوبونات, الواحد منهم قيمته25 قرشا يسددون بها حسابهم دون أي تأخير.' وكان للعمال زي موحد, بدل زيتي بصفي زراير للسعاة, وكحلي لعمال الأسانسير, وزيتي وجاكيت أبيض لعمال البوفيه.' ومن يأتي تاركا ذقنه دون تهذيب, يخصم منه ثلاثة أيام' أما عن طرق التقديم فيحكي عم رجب:' كنا نقدم المأكولات والمشروبات الساخنة و المثلجة للصحفيين في مكاتبهم علي طاولة بها كل ما يحتاجونه, لأنه كان ممنوعا دخول أي مأكولات أو مشروبات من خارج المؤسسة. وكان الصحفيون في معظم الوقت يتنقلون بحثا عن الأخبار والمعلومات. والساعة2 بالثانية يكون استاذ هيكل علي طاولة الديسك, ووقتها من يلقي ابرة في الصالة يستطيع سماع صوتها. صالة تحرير كانت تحتوي علي لوحة تحدد صفحات الجورنال هذا اليوم, تضيء كلما انتهينا من احدي الصفحات, وصولا للصفحة الأخيرة التي نحمل بعدها ثلاث نسخ, لرئيس التحرير, ومسئول قسم السكرتارية الفنية ومسئول الديسك. وكنا نفاجأ دائما بهدايا ومزايا من الصحفيين:' استاذ كمال الملاخ كان دايما بيجيبلنا دعوات لمهرجان السينما وتذاكر سينما,والاستاذ ممدوح طه جبلنا شققا في الأميرية تبع محافظة القاهرة, ب12 جنيها.' كان الجميع في الأهرام أسرة واحدة, كما يقول عم رجب, من كتاب كبار وصحفيين إلي عمال وسعاة, كل يقدر الآخر ويحترمه, ويسأل عنه إذا غاب أومرض, لكن الشغل شغل, وفي رقابة وثواب وعقاب'. علاقات تحمل مشاعر الدفء ورقي التعامل والتكافل أيضا كما يقول عم رجب, متذكرا يوم أن سأل الاستاذ صلاح هلال عن محسب أبو الحمد, عامل الكافتيريا وعرف أنه حدثت له مشكلة وتم احتجازه بقسم الشرطة, فأجري الاستاذ صلاح اتصالات ثم ذهب اليه بنفسه وبعدها بساعات كان محسب بيننا. مودة ورقي في التعامل وتواضع العظماء كان دائما حال الاهرام كما يؤكد عم رجب, قائلا تعاملت مع الأساتذة نجيب محفوظ, توفيق الحكيم, لطفي الخولي, محمد سيد احمد, يوسف ادريس, غالي شكري, سمير صبحي وفريد مجدي وماهر الدهبي وقبلهم الأستاذ بحري وآخرين من الكتاب والقيادات الشهيرة, ولم أرهم يوما يوبخون ساعيا أو يتعالون علي عامل بوفيه, لم نكن نشعر بفرق بيننا وبينهم. ثقة وتواضع الكبار شجع عم رجب علي استكمال تعليمه اثناء العمل حتي وصل إلي المرحلة الثانوية, ولولا ظروف الزواج والأولاد لكان أكمل الجامعة كما يقول. كان عم رجب يعشق مقالات نجيب محفوظ و يوسف ادريس وثروت اباظة ويتابع قفشات لطفي الخولي ومحمد سيد احمد عن' كوبنهاجن'. وفي رمضان كان يشارك في تجهيز وجبة الافطار الذي كانت تنظمه الادارة لكل قسم, وكنا ننظم سهرات انشاد ديني ونستمتع بصوت الشيخ النقشبندي, بس لازم نخلص بدري علشان توزيع الجورنال. وفي إحدي السنوات قال لنا الأستاذ علي الجمال كل واحد ياخد75 جنيها و يفطر في بيته مع ولاده, وادعوا للاهرام. ودي كانت بداية' منحة ليلة القدر'. بس احنا زمان كانت فلوسنا أكتر بكتير. والعلاوة كانت قيمتها نص الراتب تقريبا. في حاجات كتيرة اتغيرت, واهم حاجة أن الناس مش بتحب شغلها زي زمان كله عارف أنه هيشتغل أو مش هيشتغل هيقبض, ودي مشكلة البلد كلها يا استاذة. لكن عم رجب رغم ذلك لا يزال يسير بخطوات سريعة هنا وهناك, ينقل أوراقا ويلبي طلبات بحماس وضميريقظ, يعرفه الجميع بأنه الأكثر انجازا دون أن يكل أو يمل, فالعمل هو الحياة بالنسبة له,' أنا لو بطلت شغل أموت'.