إن تلك الحكايات الصغيرة العابرة التي نتبادلها طيلة الوقت, في كل مكان, هي ما يجمع بيننا, وما يبقينا علي قيد الحياة قالها الكاتب ابراهيم أصلان. وهو الذي قال أيضا: إن العبرة ليست أبدا في معرفة الناس إنما في الإحساس بهم.وعن كيفية تعاملنا معهم يقول أصلان: يجب ألا تتحدث عن الحب بل عليك أن تتحدث بحب, فكل النصابين يجيدون أحاديث الهوي... ويجب ألا تتحدث عن العدل بل يجب عليك أن تتحدث بعدل لأنه لا يجيد الحديث عن العدل مثل الظالمين.وبما أن لحظات اللقاء والحميمية تضاءلت كثيرا في حياتنا,واشتد الضجيج المثار من حولنا نجد ابراهيم أصلان ينبهنا ويحذرنا قائلاصحيح أن الكلام عموما من الكثرة بحيث لا يقل وفرة عن الهواء ذاته, الأمر الذي يجعله بين يدي من يفرطون في الجعجعة به مثل من يفرط في تداول الكلمة كقطعة العملة حتي يمحو علاماتها بين أصابعه ويضيع مذاقها ومعناها ويفقد قدرته علي تبين دلالتها ولا قيمتها. ............... وقيمة الكلمة وأهمية اللقاء معان انسانية تتكررعلي مسامعنا هذه الأيام ونحن نودع عاما قديما ونستعد لاستقبال عام جديد. ان قيمة الكلمة بشكل عام سواء كانت مكتوبة أو مسموعة تعني الكثير في تحديد ملامح حياتنا وتقييم مدي تقديرنا لأنفسنا وللآخرين من حولنا.. وأيضا في تثمين مدي جديتنا واهتمامنا بالعمل من أجل الوصول للقاء الانساني. ذلك اللقاء الحميم الذي يتجاوز الاختلافات ويحتضن أحلامنا كبشر وذكرياتنا كشعوب ويحافظ علي ذواتنا وشراكتنا من أجل مستقبل أفضل. والدفء الانساني بالطبع مطلوب في كل أيام العام الا أن حلول العام الجديد مع ذهاب العام القديم يدفعنا من جديد للتطلع الي كل ما يمكن أن يحقق لقاء الدفء ودفء اللقاء معا في أيام وليالي برد الشتاء القارس. أديبنا الكبير نجيب محفوظ يذكرنا في الشحاذ: الانسان إما أن يكون الانسانية جمعاء, وإما أن يكون لا شئ ويقول: لا وقت عندي للتساؤل عن معني الوجود, وما دمت أؤدي خدمة كل ساعة لإنسان هو في حاجة ماسة إليها فما يكون معني السؤال!ويكتب أيضا في الرواية الصادرة عام1965: ما أجمل أن تحل مشاكلنا الخطيرة بحبة بعد الأكل او ملعقة قبل النوم! وبما أننا نقرأ عن مشروع اقامة متحف لنجيب محفوظ علينا أن نذكر القائمين بأمره أن ينتبهوا بأن المتحف طالما ينطلق في القرن الحادي والعشرين فانه يجب أن يضم بين جنباته ليس فقط ما هو تاريخي وتذكاري في حياة كاتبنا الكبير بل ما هو حلم وخيال وسحر وجمال في ابداعه وبصماته. خاصة أن الحلم كان له مكان مميز في سيرته وعبقريته.كما أن في عصرنا وسائط وأدوات لتجسيد الحلم واطلاق الخيال. ويجب التذكير أن من أكثر التعريفات التي تلفت الانتباه في وصف المتاحف خلال السنوات الأخيرة انها الأماكن التي يحلق منها الخيال. وبما أننياخترت من جديد التجوال في شوارع الفضفضة والتسكع في حواري الحميمية وأيضا لجأت للحديث عن أزقة الحلم و نواصي الذاكرة تأتي في البال هذا الأسبوع البوصلة.. ثم الشاي. أما البوصلة فهي الرواية التي فازت بجائزة جونكوور الأدبية الشهيرة في فرنسا هذا العام من تأليف ماتياس إينار(43 عاما), والرواية الفرنسية أثارت اهتمام الدوائر الأدبية والفكرية في أوربا وعبر الأطلسي في الفترة الأخيرة لأنها نبهت الي ضرورة تفعيل وتعميق التواصل والتفاعل بين الشرق والغرب مثلماحدث عبر التاريخ. هذه الرواية كما كتبت نيويورك تايمز منذ أيام تكاد تشبه موسوعة عن كيف أن هذا اللقاء مع الشرق غير فنون الرسم والآداب والموسيقي في أوروبا. المؤلف ماتياس اينار دارس وباحث في العربية والفارسية اللغة والموسيقي والثقافة ومحاضر لها في برشلونة. وقد عاش في كل من دمشق وطهران في التسعينيات من القرن الماضي. وفي حوار مع مي منسي بصحيفة النهار اللبنانية يقول المؤلف عن بطل الرواية فرانز ريتر عالم الموسيقي:.. لا ينتمي إلي بقربي سوي أنه ينتمي مثل كاتبه إلي هذا الشرق, بسحره, بشمسه المتصوفة, بشعرائه, بموسيقاه, وكل هذا التاريخ الذي كان للغرب يد في صياغته الثقافية والسياسية والاستعمارية. الروائي يسمح لقلمه بأن يختلق شخصيات تشبهه في بعض الأمور, كما قد تكون مختلفة عنه في أمور أخري. فمن حيث لا أدري ربما, أعطيت فرانز ريتر جوانب خفية من ملامحي, ومن هواجسي. ويقول أيضا: قام هذا الكتاب علي سنوات ثلاث من البحث في كل المجالات الموسيقية والأدبية والفلسفية. الفكرة كانت في حاجة إلي التمحص والتروي كي تأخذ هذا الشكل الجدي والفودفيلي في آن واحد.الشرق منبت للأساطير التي تأخذ الباحث في رماله عن هذا الكنز من السحر. وألف ليلة وليلة تبقي الشاهدة الكبري علي ذلك. ونحن بلا شك في انتظار ترجمة هذه الرواية. أما الحديث عن الشاي يسحبنا الي كتاب الشايالصادر عام1906 أي منذ نحو110 سنوات الا أنه يقرأ حتي الآن.ينطوي الشاي علي سحر خفي يجعله لا يقاوم ويمنحه القدرة علي اسباغ الاحساس بالمثالية. فالشاي ينأي بنفسه عن غطرسة النبيذ, وعن غرور القهوة, وعن البراءة المتكلفة في نبات الكاكاو.هذا ما يذكرهمؤلف الكتاب الباحث والعالم الياباني أوكاكورا كاكوزو(1862 1913). وقد عاش في الولاياتالمتحدة وعمل في متحف بوسطن وألف هذا الكتاب المتميز باللغة الانجليزية. والكتاب يتعامل مع الشاي ليس باعتباره مشروبا بل أسلوب حياة وفلسفة. في بابكوب الانسانية يكتب المؤلف قبل أن يصبح الشاي شرابا كان عشبة طبية الي أن أدخلته الصين في القرن الثامن الميلادي الي مملكة الشعر,بوصفه واحدا من المتع الكيسة.أما القرن الخامس عشر فقد شهد رفع اليابان للشاي الي مصاف المذاهب الجمالية الراقية, لينشأ بعدئذ ما يمكننا تسميته مذهب الشاييةTeaism. وقد انبثقت طائفة الشاي من صلب تقدير سمو الجمال في خضم الحقائق الدنيئة للحياة اليومية.وهي طائفة تحتفي بالنقاء والتناغم, وسر الكرم المتبادل, وبرومانسية النظام الاجتماعي. وهي تجسد بالضرورة عبادة للنقصان.كما أنها محاولة رقيقة لانجاز ما أمكن في خضم هذا المستحيل الذي نسميه الحياة ............... عام جديد في انتظارنا جميعا.. وفي انتظار تحليق أحلامنا والانطلاق بمغامراتنا والاحتفاء باكتشافاتنا.