في كتاب أوكاكورا كاكوزو عن الشاي: «ينطوي الشاي على سحر خفي يجعلهُ لا يُقاوم، ويمنحهُ القدرة على إسباغ الإحساس بالمثالية. فالشاي ينأى بنفسه عن غطرسة النبيذ، وعن غرور القهوة، وعن البراءة المتكلفة في نبتة الكاكاو». لعبت العزلة الطويلة التي عاشتها اليابان عن بقية أنحاء العالم، بوصفها سبباً لتأمّل الذات وسبر أغوارها، دوراً أساسياً في تطّور «الشايية» (من شاي). إن منازل اليابانيين، وعاداتهم، وأزياءهم، ومطابخهم، وفنون خزفهم والشراب والتزيين والرسم، وحتى أدبهم نفسه، عرضة للتأثر بعالم الشاي، حتى أنه ليس من دارس للثقافة اليابانية يسعه تجاهل حضور الشاي فيها. كتاب أنيق، فخم مُذهّب هو «كتاب الشاي» لأوكا كورا كاكوزو (توفي عام 1913 وكان ينتمي الى عائلة من الساموراي) كتبه الرجل وأصدره للمرة الأولى قبل مئة وثلاث سنوات، وتُرجم الى ما لا يُحصى من لغات العالم، وطُبعت منه مئات الطبعات، ولا يزال يُعّد حتى الآن بين الكتب الأكثر مبيعاً. «كتاب الشاي» بين يديّ القارئ العربي أخيراً، ترجمه وقدّم له الشاعر المترجم سامر أبو هواش، عن «كلمة» (هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث) ويمكنه ملء ثغرة في مكتبتنا العربية، كما إضاءته على ذلك البعد الحضاري الذي يطرحه، بتلك الطريقة الفريدة في فهم الهوية والدفاع عنها، من خلال «الشاي» وتناوله وطقوس هذا التناول، في معنى أعمق من الاستعمال اليومي العابر، لمّا يُدرك فهماً مختلفاً لشتى نواحي الحياة اليابانية، فناً وسياسة واجتماعا. بالنسبة لي، أنا التي شدّتني قراءة هذا الكتاب، الى درجة مقاربته وإن بإيجاز في هذه الزاوية «.. ما اشربش الشاي» على ما تقول الأغنية المسخرة. لا يهمنّي الشاي ولا يلذّني شربه، وأفضّل عليه مشروبات أخرى وإن كنت أُغصبُ على كوب منه أثناء المرض والبرد. ما أذهلني هو أسلوب أوكاكورا، وتلك الكياسة التي زيّنت الكتابة وأعلتها، في التناول المترف لفلسفة الشاي وعلاقتها المباشرة بعلم الجمال فضلاً عن الأخلاق والدين. عظمة الأشياء الصغيرة وجهة نظر متكاملة عن الإنسان والطبيعة، وفلسفة مرتبطة بالنظافة والحثّ عليها، كما وتُعنى بالاقتصاد، وتجد أرضية لها في البساطة أكثر مما في التعقيد والتكلّف، لتصل الى ان تكون هندسة أخلاقية، وبوابة لإحساسنا بالتناسب في هذا الكون، وعلى هذه المجرّة البديعة. وهي أيضاً كتابة تميل الى تمثّل الروح الحقيقية للديموقراطية الشرقية، إذ تجعل جميع مريديها أرستقراطيين لجهة الذوق. يستدرك كاكوزو في كتابه، إمكانية استنكار غير اليابانيين للجلبة التي يثيرها حول أمر بسيط كالشاي، او أن يقول قائل منهم بأنه يثير عاصفة في كوب من الشاي! فيكتب سلفاً للمستنكرين، آخذاً في الاعتبار مدى ضآلة كوب المسرّات البشرية، وكيف أنه سرعان ما يطفح بالدموع. علينا ألاّ نقسو على أنفسنا كوننا نحمّل كوب الشاي كل هذه المعاني. الجنس البشري ارتكب فظاعات لا تُحصى، ففي عبادتنا لباخوس قدّمنا الأضاحي البشرية، كما مجدّنا الصورة الدموية لإله الحرب مارس، فلم لا نُحيط بهالة من التقديس، والحال هذه، ملكة الكاميليا؟ لم لا نجد متعة، في ذلك النهر الوجداني المتدّفق من مذبحها؟ قد نلامس في السائل الكهرماني داخل كوب من البورسلان العاجي ذلك الصمت العذب الذي يُغلّف كونفوشيوس، وتلك الحّدة الصرفة لدى لاوتسي، وذلك الشذى الروحاني المحيط بساكياموني نفسه. نفهم رغبة كاكوزو في التطهّر حيال الغربيين، الأميركيين تحديداً من فن الموت أو «قانون الساموراي» وجعله حكراً بربرياً على اليابانيين، بتركيزه المليء بالحماس على فنون رقيقة في الحياة اليابانية ومنها «الشايية» ويتهم كاكوزو الأميركيين بأنهم لا يُحسّون بضآلة الأشياء العظيمة في ذواتهم، وميالون الى إهمال العظمة الكامنة في الأشياء الصغيرة لدى الآخرين. فالغربي العادي الغارق في الاكتفاء الذاتي، لا يسعه أن يرى في حفل الشاي إلا دليلاً آخر على الغرائب الكثيرة التي تشكّل سحر الشرق وطفوليته. كتاب جميل على غرار كل ما هو جميل في العالم، ولو كتب كاكوزو عن أيّ أمر لبدا كتاباً جميلاً أيضاً، حيث أعظم المتع هي القيام بعمل طيّب خلسة (قراءة هذا الكتاب مثلاً) وأن يكشف أمر هذه القراءة صدفة. ذلك أن فن إخفاء جمال الكتابة، هو تناولها أمورا بسيطة ليكتشفها القارئ. إنه السّر النبيل الكامن في الإيحاء، بهدوء لا يخلو من عمق.. عن السفير