ساحة سياسية حافلة بالصخب والصراع وتبادل الاتهامات. يدور أطرافها الراغبون في التغيير حول أنفسهم. ينتجون حركات ومنظمات من أجل التغيير. تتكاثر هذه المنظمات عبر التوالد الذاتي. ولكن بلا جديد في الأغلب الأعم, وكلما بدا أن أحدها يمكن أن يجمع الشتات, لا تمضي أيام حتي يعلن غيره. وليس هذا إلا مظهرا جديدا من مظاهر أزمة النخبة السياسية والثقافية التي حملت لواء الاصلاح علي مدي نحو ثلاثة عقود, فلم تنتج تقدما يساوي حتي ثلاثة أشهر من العمل الجاد. فكان ضعف أداء هذه النخبة, أو النخب المتناثرة المبعثرة, ومازال, مسئولا عن الفراغ السياسي والفقر الديمقراطي الراهنين, إلي جانب القيود السلطوية. فلم تكن هذه القيود إلا وجها واحدا لأزمة التطور الديمقراطي. أما الوجه الآخر فهو هشاشة تكوين وضعف اداء النخبة( أو بالأحري النخب) السياسية والثقافية سواء التي عملت في إطار الأحزاب أو انضمت إليها, ثم خرجت منها أو بقيت مستقلة من البداية. ولأن الضعف لا ينتج قوة, كان طبيعيا أن يأتي أداء الأجيال الجديدة في النخب السياسية والثقافية الداعية للتغيير أكثر ضعفا. كما ازداد العمل السياسي عشوائية وارتباكا. وساهمت ثورة الاتصالات في ذلك من خلال أثرين أحدثتهما في الساحة السياسية: أولهما فتح الباب واسعا للمشاركة عبر الانترنت من خلال مواقع ومدونات شتي, فأصبح العمل السياسي في الفضاء أكثر منه علي الأرض. وأدي هذا إلي تنامي شعور زائف بالاشباع السياسي من خلال نشاطات ذات طابع افتراضي, حتي إذا كان لها أثرها في الواقع. أما الأثر الثاني فهو ما يمكن أن نطلق عليه فوبيا الكاميرا. فقد انتشرت الفضائيات, واشتد ولع الناس بها, وازداد عدد الساعات التي يقضونها أمامها. وانعكس ذلك علي السياسيين والمثقفين بقضية التغيير, فأصبح الهدف الأول لنشاطاتهم هو تصويرها وبثها تليفزيونيا بغض النظر عن النتائج التي تؤدي إليها في الواقع. فلم يعد مهما حفز الناس للمشاركة في مؤتمرات وندوات ولقاءات تعقد من أجل الاصلاح وتسعي إلي التغيير. فالمهم هو أن تكون الكاميرات حاضرة للتصوير. وحدث في بعض النشاطات أن كان عدد الكاميرات الموجودة أكبر من عدد الأشخاص الحاضرين. ولذلك, فبالرغم من أن القيودة الشديدة التي فرضت علي العمل السياسي في ظل التعددية المقيدة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي خفت نسبيا في السنوات الخمس أو الست الأخيرة لأسباب عدة ليس هنا موضعها, لم يحدث تحسن ملموس في أداء النخب السياسية والثقافية التي تحمل لواء الاصلاح. فقد تكاثرت نشاطاتها وتبعثرت, وازداد إنتاجها للجماعات والتحالفات المؤقتة, ولكن في غياب الفعل السياسي المؤثر. وإذا كان خطاب هذه النخب يقول إن القيود هي أساس مشكلة التطور الديمقراطي, ففي امكان غيرهم أن يذهب إلي أن هذه القيود لم تفعل فعلها المؤثر إلا بسبب هشاشة أداء أنصار التغيير وعجزهم عن إدراك مقتضيات تحقيقه. وفي غياب دراسة تسعي إلي تحديد وزن كل من العاملين( القيود السلطوية وسوء أداء أنصار التغيير), يظل كل من الاتجاهين في تفسير أزمة التطور الديمقراطي نوعا من الاجتهاد. والأكيد أن ضعف هذا التطور نتج عن العاملين معا, ومن تفاعلهما. فما كان لأي قيد أن يؤدي إلي ما آلت إليه التجربة التعددية لو كانت النخب المعارضة والمستقلة أفضل أداء وأكثر تماسكا. وما كان لضعف تكوين وسوء أداء هذه النخب أن يحدث كل هذا التأثير لو أن القيود كانت أقل. إن نخبا أفضل حالا كان في إمكانها أن تطور منهجا أكثر فاعلية في التعامل مع القيود عبر التركيز علي نشر ثقافة سياسية ديمقراطية في المجتمع خلال المرحلة الأولي للتعددية المقيدة أكثر من الاهتمام بالتصعيد الذي لم تملك مقوماته لإرغام نظام الحكم علي إزالة هذه القيود أو تخفيفها. ولأن هذا لم يحدث, فقد وضع التطور الديمقراطي بين مطرقة القيود المفروضة عليه ونفاد صبر الرئيس الراحل أنور السادات بسرعة شديدة وسندان أداء النخب السياسية والثقافية المعارضة التي لم تحسن إدراك دورها في هذا التطور, فساهمت في تعويقه عبر انصرافها عن نشر ثقافة الحرية والتسامح والتعدد واحترام الآخر والحوار والحل السلمي للخلافات. وإذا رجعنا, بسرعة, إلي النظرية الديمقراطية نجد عدة مناهج في مجال الاصلاح المرتبط بالتحول الديمقراطي, وتحديد مقدمات تقدمه أو تخلفه. وأهم هذه المناهج اثنان ينطلق أحدهما من منظور ثقافي, ويقوم الآخر علي نظرة نخبوية دون أن يغفل الأول حيوية دور النخبة أو يتجاهل الثاني أهمية تأثير الثقافة. المنهج الأول لا يري امكانية لتطور ديمقراطي مطرد ومستقر ما لم تنتشر الثقافة الديمقراطية وقيمها الأساسية مثل التعددية وقبول الآخر والتسامح والحوار والتنافس السلمي. ويري هذا المنهج أن الثقافة السياسية أهم من المؤسسات والهياكل والأبنية. بل يجعله القاعدة أو البنية الأساسية التي يقوم عليها أي بناء ديمقراطي, وتعمل في ظلها الأحزاب والمجتمع المدني, وتجري في رحابها الانتخابات دون حاجة إلي إجراءات أو قواعد إضافية لضمان حريتها ونزاهتها. أما المنهج الثاني فهو يقوم علي أن التطور الديمقراطي يتوقف علي طبيعة الجماعة أو النخبة السياسية, أي قادة الاتجاهات والقوي السياسية المختلفة في الحكم والمعارضة, ومدي قدرتها علي الوصول إلي تفاهم أو تراض عام حول هذا التطور والأسس التي يقوم عليها ونجاحها في تجنب الانقسامات التي تنجم عن الخلافات بينها. فهذه الخلافات تهدد, إذا تجاوزت مستوي معينا, استقرار النظام الديمقراطي المأمول أو تخلق مخاوف من امكان استئثار حزب أو آخر بالسلطة إذا وصل إليها عبر الانتخابات فلا يغادرتها. فالأساس الذي ينطلق منه هذا المنهج هو أن النخبة السياسية التي تستحق الديمقراطية, وتستطيع تلمس الطريق إليها والمضي فيه قدما هي التي تتمكن من إيجاد تفاهم عام علي معالم هذا الطريق, بما يحقق ثقة متبادلة بين أطرافها, ويرسي تقاليد التكيف والتعاون والمساومة وصولا إلي وضع تزيد فيه مساحة التوافق علي مساحة الصراع, وتتحول النزاعات الايديولوجية والعقائدية الجامدة بطبيعتها إلي خلافات علي برامج وسياسات محددة في إطار قواعد للعبة مقبولة من الجميع. وعلي هذا النحو تبدو الثقافة الديمقراطية قاسما مشتركا جزئيا بين المنهجين, مع اختلاف في نطاق هذه الثقافة أو المقدار اللازم توافره منها. فالمنهج الأول يتطلب شيوعها في المجتمع, بينما يشترط الثاني توافرها في أوساط النخب السياسية والثقافية. ويبدو القاسم المشترك الأعظم بين المنهجين هو أنه يصعب التطلع إلي تغيير ديمقراطي كبير بدون عمل واع ومنهجي يقوم به سياسيون يؤمنون حقا بالديمقراطية ويمارسونها فعليا, ويحرصون علي أن يكون كل منهم نموذجا لها. وهذا منطقي تماما, حيث لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين.