الكلمة أمانة لها مكانتها عند الله عز وجل، فالكلمة قد ترفع صاحبها في جنة عرضها الأرض والسماوات وقد تهوي بصحابها في دركات النيران والعياذ بالله، فلا بد لكل إنسان أن يزن كلامه قبل النطق به. وقد أوضح لنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن بلال بن الحارث المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت؛ فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يرى أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه" [المعجم الكبير الطبراني:1/367]، وعن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت.." [البخاري: الأدب المفرد: 1/171]. يعيش إعلامنا العربي والإسلامي صدمة إعلامية على مختلف المستويات السياسية والتنظيمية والفنية، فليس بالأقمار الصناعية والقنوات الفضائية وأحدث المطابع الصحافية وحدها يحيا الاتصال في عصر المعلومات والتقدم التكنولوجي، بل لا بد من تطوير الإعلام فنيًّا وتنمية الذاتية الإعلامية والاهتمام بالجانب القيمي والتربوي وتنمية الحاسة الإعلامية الانتقائية ولا بد من التخلص من التبعية لهذا أو ذاك. إن اليابان عندما أرادت أن تبني نهضتها منعت أي إعلان أو خطاب بغير اللغة اليابانية، ومنعت تعليق أي لافتات إلا أن تكون مكتوبة بلغة اليابانيين، فلا بد لإعلامنا أن يعتز بلغتنا العربية ويظهرها في أبهى حلة ويعمل على نشرها، فلقد فقد إعلامنا العربي محوره، وأضحى مكبلاً بقيود ارتباطه الوثيق بالسلطة، تائهًا بين التبعية الفنية والتنافس السلبي على سوق إعلامية إعلانية محدودة، شاعرًا بالحرج بين شتى الفضائيات والقنوات؛ فكان نتيجة ذلك أن أصبح إعلامنا رهْن الإعلان من جانب، ودليل الدعم الحكومي من جانب آخر، وصار يتغلب عليه الفكر الرأسمالي، فاهتم بجلب الأموال على حساب النزاهة الإعلامية والخصوصية الفنية، صار إعلامنا شغوفا بالدعاية ونشر صور الفنانين والفنانات واللاعبين واللاعبات لهثا وراء المال والشهرة حتى خوى جوهره من بناء القيم وتنمية أخلاقيات المجتمع وثقافته، وصار لا يتورع عن نشر الصور الفاضحة والإعلانات المخلة دون التقيد بأي قيم ولا أخلاق ولا دين. إن إعلامنا العربي والإسلامي يواجه عصر التكتلات الإعلامية مشتتًا عازفًا عن المشاركة في الموارد، يعاني من ضمور الإنتاج وشحّ الإبداع، حتى كاد -وهو المرسل بطبيعته- أن يصبح هو نفسه مستقبلاً للإعلام المستورَد ليعيد بثّه إلى جماهيره، ولقد أوشكت وكالات الأنباء لدينا -نحن العرب والمسلمين- أن تصبح وكالات تابعة للوكالات الأربع الكبرى في العالم (رويترز- وكالة الأنباء الفرنسية - آسيشتد برس – يونايتد برس)، حتى فيما يخص أخبارنا المحلية للأسف الشديد!! لقد ارتضينا أن نوكل إلى غيرنا نقلَ صورة العالم من حولنا، بل صُنْعَ صورتنا عن ذاتنا أيضًا للأسف الشديد!! فإعلامنا إذن يشكو من تناقض جوهري، بعد أن تخلى عن مهمته التنموية الأساسية ليسوده طابع الترفيه والإعلان على حساب المهام الأخرى، حيث يركز على الدراما والكرة والفن، بل والعمالة لصالح هذا أو ذاك والتبعية العمياء والتطبيل لمن يدفعون أكثر، حيث تخلى إعلامنا عن التوعية الثقافية، وإعادة إحياء الإرادة الجماعية للمشاركة في العمل الاجتماعي ومن قبيل الإنصاف، فإن إعلامنا، شأنه في ذلك شأن معظم نظم الإعلام في دول العالم الثالث، يعمل تحت ضغوط سياسية واقتصادية تنأى به عن غاياته التنموية البعيدة المدى، ويكمن التحدي حاليًّا في أن التوجهات الإعلامية الراهنة تعمل على زيادة هذه الضغوط؛ مما يتطلب سياسة إعلامية أكثر صمودًا ومرونة وابتكارًا، هذا باستثناء بعض القنوات القليلة التي تتسم بالموضوعية والنزاهة وتهدف إلى إرساء القيم الدينية والتربوية. فمثلا يروج إعلاميونا للتهويل والتخويف من الدولة الدينية في الإسلام، وهذا إن دل فإنما يدل على مدى الجهل البين، حيث إنهم ينقلون الفكرة من الغرب ومساوئ دولة رجال الدين في الغرب وما حدث في محاكم التفتيش وتسلط هؤلاء على مقاليد الأمور، أو ينقلون النموذج الإيراني الفارسي الذي يدعي جهلا العصمة للإمام، فلا هذا ولا ذاك مقبول لدينا، فالأمير في الإسلام محاسب ومراقب من أهل الحل والعقد، وبقاؤه مشروط أن يطيع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما إن عصى فقد حكم على نفسه بالعزل الفوري، وهذا جهر سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فيكم فلا طاعة لي عليكم"، وبذلك قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالأغاليط التي يروجها إعلاميونا ليل نهار منبعها الضعف والخور والتبعية العمياء للإعلام الوافد والمستورد من الخارج. وأيضا يروج إعلاميونا للدعوة المطلقة دونما قيد أو ضابط للتنوير والعلمانية، متجاهلين أو متغافلين عن أن هذه الأفكار نشأت في بيئات منعت العلم وحاكمت العلماء وأعدمت أصحاب النظريات وحال دون حرية الفكر، أما في ديننا الحنيف فهو دين النور والعلم من أول لحظة بعث فيها النبي الكريم ناداه ربه قائلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]، وأيضا قال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [ن:1]، فديننا إذن هو دين العلم والنور أخرج الله به البشرية من الظلمات إلى النور.
إننا صرنا نستورد نظمًا تربوية منزوعة من سياقها الاجتماعي، وإن جاز هذا في الماضي فهو يتناقض جوهريًّا مع توجه التربية الحديثة نحو زيادة تفاعلها مع بيئتها الاجتماعية، فلا بد لكل أمة من خصوصيتها الإعلامية، ولا بد أن نحرص على البعث القيمي والأخلاقي. المزيد من مقالات جمال عبد الناصر